15.09.2025

مُحاكمة المُغوية: كيف يُغذّي نموذج "سالومي" التحيّزات المعادية للنسويّة في الأنظمة القانونيّة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقي

يتناول هذا المقال كيف أنّ نموذج المرأة المُغوية، المتجذّرة في حكايات مثل "سالومي"، ما زالت تؤثّر في التحيّز القانوني ضدّ النساء في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. ومن قاعات المحاكم إلى الرأي العام، يكشف المقال كيف تتقاطع الأسطورة والأخلاق وكراهيّة النساء لتجريم وجود النساء ووكالتهنّ الذاتيّة، ولإسكات الناجيات.

نموذج المُغوية والعمل الثقافيّ المُتمثّل في اللّوم

الحكاية جزءٌ متجذّرٌ في ثقافاتنا وتاريخنا. تنتقل القصص عبر الأجيال لتصبح جزءاً من ذاكِرتنا الجَماعيّة، وتشكّل، بشكلٍ خفيٍّ، القيم والأدوار والتوقّعات الّتي تنظّم المجتمع. لكن أيّ نوعٍ من الدروس تُقدّم هذه القصص؟ وكيف تُفسَّر؟ ومصلحة من تخدُم؟

سواءٌ كانت أسطورةً أو خرافةً أو حكايةً تاريخيّة، فإنّ القصص الّتي تبقى وتُروى مراراً تترك أثراً عميقاً في النسيج الثقافيّ. ومع تكرار سردها، تتجذّر في أنماطٍ ونماذج أصليّةٍ: شخصيّاتٍ رمزيّةٍ تحمل ثقلاً أيديولوجيّاً. هذه النماذج الأصليّة ليست محايدةً أبداً، لا سيما عندما ترتبط بالجندر والجنسانيّة. فهي تعكس وتُعزّز أفكاراً حول الأخلاق والسلطة والنظام الاجتماعيّ.

من أكثر النماذج الأصليّة رسوخاً وخطورةً وإيذاءً هو نموذج المرأة "المُغوية". وبينما يُمكن إرجاع أصله إلى شخصيّاتٍ مثل "حوّاء"، والّتي عوقِبت بالألم والخضوع بسبب الخطيئة الأصليّة، وليليث، الّتي تجرّأت على المطالبة بالمساواة فطُردت بسبب ذلك، لكنّ امرأةً انجيلية واحدةً تحوّلت إلى الوجه الأشهر لهذا النموذج: "سالومي".

بخلاف "حواء"، الّتي تبقى قصّتها وإرثها في الإطار اللاهوتي، أو ليليث الّتي تُستَحضَر كرمزٍ للتمرّد، فإنّ قصة "سالومي" تحمل طابعاً مسرحيّاً وقضائيّاً فريداً. فهي تُذكَر كالفتاة الفاتنة، "المرأة الفتّاكة" في الرواية، والّتي أدى رقصها إلى إعدام نبيٍّ. إرثها يدمُج بين الجنسانيّة والذنب، وبين المشهديّة والعقاب، ولا يزال شبحه يخيّم على كيفيّة تفسير أجساد النساء ورغباتهنّ في قاعات المحاكم.

رقصة الحجابات السبعة

"ثُمَّ لَمَّا صَارَ مَوْلِدُ هِيرُودُسَ، رَقَصَتِ ابْنَةُ هِيرُودِيَّا فِي الْوَسْطِ فَسَرَّتْ هِيرُودُسَ. مِنْ ثَمَّ وَعَدَ بِقَسَمٍ أَنَّهُ مَهْمَا طَلَبَتْ يُعْطِيهَا. فَهِيَ إِذْ كَانَتْ قَدْ تَلَقَّنَتْ مِنْ أُمِّهَا قَالَتْ: «أَعْطِني ههُنَا عَلَى طَبَق رَأْسَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ»" – إنجيل متّى (14: 6-11)

وهكذا فعل تماماً.

أصبحت "سالومي"، ابنة هيروديا زوجة هيرودس أنتيباس، النموذج الأبرز لـ"المرأة الخبيثة" في التقاليد الإبراهيميّة، إذ أطاعت رغبة أمّها وهي لا تزال في سنّ المراهقة، وتسبّبت في مقتل يوحنا المعمدان (المعروف أيضاً بالنبيّ يحيى). ألهمت قصّتها الإنتاج الأدبيّ والثقافيّ عبر العصور، فمن النصوص الدينيّة إلى لوحات عصر النهضة، والأدب الرومانسيّ، وصولاً إلى السينما الحديثة، لترسّخ بذلك نموذج "المُغوية" كقصّةٍ جماليّةٍ وتحذيريّةٍ في آنٍ واحدٍ. ومع ذلك، ليست كلُّ التفسيرات على هذا القدر من التبسيط. فيرى البعض "سالومي" كفتاةٍ أُجبِرت على الطاعة، طفلةٌ تتلاعب بها أمّها والبلاط الأبويّ. بينما يفسّر البعض الآخر قصّتها كمثالٍ على تفكُّك الأسرة، حيث تصبح الفتاة الصغيرة بيدقاً في لعبة السلطة بين الكبار. تتحدّى هذه السرديّات البديلة النموذج السائد، كاشفةً كيف أنّ إعادة السرد المبسّطة والمُتصنّعة أخلاقيّاً، تلغي التعقيد والفروق الدقيقة والسياق.

حركة #أنا_أيضاً والصدوع الزلزاليّة

شكّل الحراك العالميّ #أنا_أيضاً نقطة تحوّلٍ جذريّةٍ في طريقة مواجهة المجتمعات للتحرّش الجنسيّ. فمن قاعات اجتماعات مجالس إدارة هوليوود إلى جلسات الاستماع لتعيين قضاة المحكمة العليا الأمريكيّة، ومن الحملات السياسيّة إلى أروقة الجامعات، بدأت الناجيات والناجون من العنف الجنسيّ بالتحدّث علناً، والمطالبة بمحاسبة من تورطوا في هذه الجرائم لفترةٍ طويلةٍ دون عقاب.

ولكن هذا الحساب لم يكن له نفس القدر من التأثير في كل مكان.

فرغم كون كراهيّة النساء ظاهرةً عالميّة، إلا أنّها في أجزاءٍ كثيرةٍ من منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ما زالت مقبولةً، بل ويشجَّعَ عليها، في ظلّ أنظمةٍ قانونيّةٍ شكّلتها قراءاتٌ أبويّةٌ للدين والتقاليد. ولا تواجه النساء اللواتي يخرجن عن الصمت خطر العزلة الاجتماعيّة فحسب، بل أيضاً خطر الاعتقال، وخطر تشويه السمعة، وحتّى القتل في بعض الأحيان.

في مصر، قُتلت نيرة أشرف في وضح النهار على درج جامعتها لرفضها محاولات رجلٍ التحرّش بها. وسرعان ما امتلأت مواقع التواصل الاجتماعيّ بتعليقاتٍ تزعم أنّها "استفزّت" قاتلها بمظهرها وبطريقة رفضها له. وذهب بعضهم إلى حدّ اتهامها بالقسوة لمجرّد أنها وضعت حدوداً واضحةً ومارست حقّها في التحكّم بخيارات حياتها.

وفي الأردن، وُصفت بعض جرائم قتل النساء بأنّها "جرائم شرف" وتمّ التعامل معها بتساهلٍ قانونيٍّ. وعلى الرغم من تعديل المادة 340 من قانون العقوبات الأردنيّ، والّتي كانت تتيح للرجال سابقاً قتل قريباتهم إذا ضُبطن في الزنا دون عقوبة، ما زالت هذه الجرائم مستمرةً، وما زال الرأي العام منقسماً حيالها.

وفي السودان، عندما بدأت موجةٌ من الاتهامات بالتحرّش تنتشر عبر الإنترنت، تحوّل النقاش سريعاً إلى التشكيك في أخلاق النساء اللواتي خرجن عن صمتهنّ. وقد قوبِل وسم #أنا_أيضاً في السودان، الذي انطلق كحملةٍ رقميّةٍ قرابة عام 2021، بردّ فعلٍ عنيفٍ، إذ أُعيد تصوير الناجيات على أنهنّ المحرّضات، واتُّهمن بالانحلال والإغواء وتشويه سمعة شبّانٍ يُنظر إليهم على أنّهم ذوو مستقبلٍ واعدٍ.

القانون السودانيّ لا يحمي سالومي

يُجرِّم قانون العقوبات السوداني لعام 1991 أفعال "الإغواء" و"الإغراء"، نظريًا لكلا الجنسين، بل ويشير أيضاً إلى مسألة إساءة الرجال لاستعمال السلطة. لكن على أرض الواقع، لا يوفّر هذا القانون إجراءاتٍ واضحةً أو معايير محدّدة للأدلة المطلوبة لتقديم شكوى. كما يمنع عبءُ الإثبات كثيراً من الناجيات من الاعتداء من طلب المساعدة، ويفرض عقوباتٍ مخفّفةً على التحرّش، ما لم يتصاعد الأمر إلى الاغتصاب.

وفي ظلّ هذا الفراغ في معايير الإثبات، كثيراً ما تتشكّل النتائج بناءً على التصوّرات الشعبيّة السائدة، لا على الأدلة. وهذه التصوّرات ما زالت مسكونةً بالنماذج الأصليّة النمطيّة.

من المفترض أن تهدف الأنظمة القضائيّة إلى الحذر من الإدانة الخاطئة. لكن حين تُعاقَب امرأةٌ لمجرّد رفضها إخفاء أنوثتها خلف ستار العار – وعندما يُنظر إلى رباطة جأشها أو نبرة صوتها أو سلوكها على أنّها مقاييسٌ للحكم على مصداقيّتها – يتحوّل الحذر إلى رغبةٍ في العقاب والسيطرة.

الطريق نحو التخلّي عن الموروثات الذهنيّة 

يزدهر نموذج "المُغوية" عندما لا يتمّ تحدّيه. فهو يُعيد تشكيل المؤسّسات بصمت، ويُؤطّر الروايات الإعلاميّة، ويُؤثّر على آراء القضاة والهيئات المحلفة. حيث بإمكانه أن يُقصي ويُنبذ، بل ويقتل أيضاً. وفي بعض السياقات، يدعم هذا النموذج ممارساتٍ ثقافيّةً مثل تشويه الأعضاء التناسليّة للإناث، والّتي تُبرَّر على أنّها وسيلةٌ ضروريّةٌ للحدّ من "الإغواء" والحفاظ على "الشرف".

ولكي نُغيّر هذا الرمز، يتعين علينا التصدّي له من جذوره: في المناهج الدراسيّة، وفي مواثيق الحقوق الّتي تُقرّها البرلمانات وتشكّل صورة النساء في المجتمع، وفي قاعات المحاكم الّتي تراقب سلوكهنّ، وفي خطب الجمعة، وعِظات الأحد. ويتطلّب ذلك أكثر من مجرّد حضورٍ رمزيٍّ في الهيئات القضائيّة، ومساحات صياغة القوانين، ومنتديات التفسير الدينيّ. يجب أن تكون النساء حاضراتٍ بوصفهنّ صانعات قرار، لا كرموزٍ تمثيليّةٍ. لكنّ الحضور وحده لا يكفي. فبدون منظورٍ نسويٍّ، قد تُعزّز المشاركة في النهاية نفس الخرافات الّتي تستمرّ في القمع.

وهذا يعني أيضاً إدراك أنّ التحيّز لا يُعلن عن نفسه دائماً. فهو يتسلّل عبر إشاراتٍ غير لفظيّةٍ، وينتقل عبر النظرات المُلقاة على ملابس الضحيّة، ويؤثّر على القضايا الّتي تُحال إلى المحاكمة وتلك التي تُرفض "لنقص الأدلّة".

إنّ التخلي عن مفهوم نموذج المُغوية يعني إعادة احياء الفحص الدقيق للقصص والذي يتناسب مع تعقيداتها. ويعني سرد قصصٍ لا تبدأ وتنتهي بالإغواء، ولا تُلقي بالذنب على الرغبة. ويعني أيضاً وضع السلطة في أيدي نساءٍ لطالما اعتُبرن تهديداً، لمجرّد وجودهنّ كنساء.

عندما يتوقّف الإغراء عن كونه مرادفاً للخطيئة، وعندما لا تعود الأنوثة مسؤوليّةً، وعندما تتمكن المرأة من دخول قاعة المحكمة دون أن يتمّ الحكم عليها مسبقاً من خلال أسطورةٍ ثقافيّةٍ

عندها، ربّما، تستطيع سالومي أن تستريح.

نبراس سبدرات محاميّة سودانيّة ومؤسِّسة "الأداة القانونيّة"، وهي منصّةٌ مُخصّصة لتوسيع نطاق الوصول إلى العدالة. تستخدم نبراس سرد القصص لتفكيك المصطلحات القانونيّة، ممّا يجعل القانون في متناول الجميع، وسهل الفهم، وذا صلةٍ بالحياة اليوميّة.

الآراء الواردة في هذا المقال لا تمثل بالضرورة وجهات نظر مؤسسة فريدريش إيبرت