06.06.2024

ظلال الإرث الاستعماريّ: السعي نحو الاستقلال الاقتصاديّ في ظلّ الأنظمة الاستبداديّة

تبحث هذه المقالة في الصعوبات المُزمنة الّتي واجهتها النساء في سعيهنّ لتحقيق التمكين الاقتصاديّ والسياسيّ، مع التركيز على السياسات التاريخيّة والمعاصرة الّتي تقيّد فرصهنّ. ولا تقتصر هذه المعاناة على الحقوق الاقتصاديّة فحسب، بلّ ترتبط بشكلٍ أساسيٍ بالاعتراف بالنساء كمشاركات كاملات في مجتمعاتهنّ.

تؤثّر الأنظمة الاستبداديّة بشكلٍ كبيرٍ على الاستقلاليّة الاقتصاديّة والجسديّة للنساء في العديد من دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ومع ذلك، تتحدّى النساء في دول مثل مصر وتونس كلا رواسب القمع الاستعماريّ والممارسات الاستبداديّة الحديثة الّتي تحافظ عليها. إنّ تحقيق العدالة للنساء ضروريّ للإنتاجيّة الاقتصاديّة لأنّها تعترف بالتحدّيات المتنوعة الّتي يواجهنها بسبب تقاطعات عوامل مثل الجندر والطبقة الاجتماعيّة والإثنيّة. كما أن تمكين النساء من خلال ضمان وصولهنّ بشكلٍ عادلٍ إلى التعليم، وحصولهنّ على أجور منصفة، وعلى حقوقهنّ القانونيّة، يعالج أوجه عدم المساواة المؤسسيّة ويعزز الاقتصاد بشكلٍ عام. فعندما يتمّ تقدير ودعم مساهمات النساء، تصبح المجتمعات أكثر صموداً، كما يقلّ الفقر، ويتمّ تحقيق التنمية المستدامة. يضمن هذا النهج التقاطعيّ أن تكون السياسات الاقتصاديّة شموليّة، مما يفيد المجتمع بأكمله ويعزّز نمو الاقتصاد على المدى الطويل.

إلى جانب الحدّ من الإنتاجيّة الاقتصاديّة، تُبرز القيود المفروضة على النساء أزمةً أعمق تتعلّق بالهويّة والاستقلاليّة، والّتي بدورها تؤثّر على جميع جوانب حياتهنّ. تبحث هذه المقالة في الصعوبات المُزمنة الّتي واجهتها النساء في سعيهنّ لتحقيق التمكين الاقتصاديّ والسياسيّ، مع التركيز على السياسات التاريخيّة والمعاصرة الّتي تقيّد فرصهنّ. ولا تقتصر هذه المعاناة على الحقوق الاقتصاديّة فحسب، بلّ ترتبط بشكلٍ أساسيٍ بالاعتراف بالنساء كمشاركات كاملات في مجتمعاتهنّ.

الجذور الاستعماريّة للصعوبات المعاصرة

يمكن تتبع العديد من الممارسات الاستبداديّة الّتي أصبحت شائعة بين الحكومات في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى الحقبة الاستعماريّة. فقد تمّ توجيه العديد من دول المنطقة تحت الحكم الفرنسيّ، الإيطاليّ، والبريطانيّ، لاعتماد أنظمة حكمٍ تركّز على الاستغلال الاستعماريّ، بدلاً من التنميّة المحليّة أو من التركيز على الأصوات المعارضة المهمّشة. وغالباً ما كانت هذه السياسات تسلّع النساء، فتتعامل معهنّ كأدوات اقتصاديّة بحتة، سواء من خلال استغلال عمالتهنّ، أو معاملتهنّ كرموز للسيطرة الثقافيّة. لا تزال هذه الموروثات الاستعماريّة واضحةً اليوم في قوانين العمل والأعراف المجتمعيّة الّتي تحدّد أدوار وحقوق النساء في المنطقة.

خلال فترة الاحتلال البريطانيّ لمصر، أنشأت وحافظت بريطانيا على نظام استبدادي من خلال مركزة السلطة، وتفكيك هياكل الحوكمة المحليّة، ووضع سياسات تقمع المعارضة. كما أسست ملكيّة صوريّة في مصر وسيطرت على الإدارة، ضامنة بذلك الامتثال للمصالح البريطانية من خلال الوجود العسكريّ والتكتيكات القسريّة. سهّل هذا الإطار الاستبداديّ استغلال الموارد والعمالة لصالح المستعمِر. وتمّ استهداف عمالة النساء بشكلٍ خاص في قطاعات مثل الزراعة وتصنيع النسيج. كما وتمّ إجبار الآلاف في مصر، بما فيهن/م النساء، على زراعة المحاصيل الّتي تلبي احتياجات الاحتلال البريطانيّ في معسكرات زراعيّة، غالباً دون أجر. بعد مائة عام، لا يزال هذا الاستغلال لعمل النساء مستمراً.

وبالمثل، أقام الإستعمار الفرنسيّ في تونس نظاماً استبداديّاً من خلال تأسيس نظام حمايةٍ أخضع الحكومة المحلية للسلطات الفرنسيّة. قام هذا النظام بقمع المعارضة السياسيّة، والسيطرة على الموارد الاقتصاديّة، وتنفيذ سياساتٍ تعزز الهرمية الاجتماعية. كما استغلّ الاستعمار العمالة التونسيّة والإنتاج الزراعيّ لصالحه، ممّا أدى إلى تكريس اللامساواة الاقتصاديّة والاجتماعيّة الّتي أعاقت تطور تونس.

علاوةً على ذلك، غالباً ما يتمّ تبرير التهميش الاقتصاديّ للنساء في المنطقة من خلال تفسيراتٍ أبويّة للأعراف الثقافيّة، والّتي تعتبر من رواسب الأيديولوجيات الاستعماريّة حول الجندر والسلطة. خلال الحقبة الاستعماريّة، غالباً ما فرضت القوى الأوروبيّة معاييرها وأدوارها الجندريّة على المجتمعات التي هيمنت عليها. أدى ذلك أحياناً إلى تفاقُم التفاوتات الجندريّة الموجودة مسبقاً، أو إلى إدخال معايير أبويّة جديدة تتماشى مع المصالح الاستعماريّة، مثل السيطرة على السكان المحليين، والحفاظ على نظامٍ اجتماعيّ يسهّل الاستغلال الاقتصاديّ. لا تزال هذه التأثيرات التاريخيّة قائمةً اليوم في العديد من أجزاء منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وتتداخل مع التقاليد المحليّة والتأويلات الأبوية لتبرير استمرار التهميش الاقتصادي للنساء. يتجلّى هذا التهميش بطرقٍ مختلفةٍ، كمحدوديّة وصول النساء إلى التعليم، وقلّة فرص العمل، والأجور المنخفضة مقارنةً بالرجال.

التجسيدات المعاصرة للسيطرة الاستبداديّة

تستغلّ الأنظمة الاستبداديّة القائمة حالياً في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا هذه الأطر التاريخيّة لتقييد حقوق النساء والحفاظ على النظام الّذي يستغلّ عملهنّ. على سبيل المثال، تواجه النساء في مصر تمييزاً مستمراً في التوظيف، حيث يُظهِر القطاع الخاصّ تفضيلاً واضحاً لتوظيف الرجال على حساب النساء، رغم أنّ ذلك غير منصوصٍ عليه صراحةً في القانون. يُنسَب ذلك جزئيّاً إلى ارتفاع التكاليف المتوقّعة المرتبطة بتوظيف النساء، كإجازة الأمومة. كما تواجه النساء أيضاً تفاوتاتٍ كبيرةً في الأجور مقارنةً بالرجال، وغالباً ما يتعرضن للتحرّش الجنسيّ في مكان العمل. تنتج القيم الأبويّة، جنباً إلى جنب مع الإطار القانونيّ الّذي يفرضه النظام الاستبداديّ، بيئةً شاقةً يصعب على النساء فيها المطالبة بحقوقهنّ واستقلاليتهنّ والمطالبة بالمساواة.

تحافظ الاستبداديّة على الوضع الراهن عبر خنق الجهود الرامية للإصلاح. ففي تونس، تدّعي/يدّعي الناشطات/النشطاء أنّ الرئيس قيس سعيد يستخدم "تمكين النساء" كواجهةً له، وأنّ دستوره الجديد يشكّل نكسةً لمكاسبٍ تم تحقيقها بشقّ الأنفس، ممّا يشير إلى تراجعٍ في الوضع الاقتصاديّ والاجتماعيّ للنساء. إنّ إقرار الدستور الجديد، والّذي استبدل في النهاية الديمقراطيّة البرلمانيّة الهجينة في تونس بنظامٍ يمنح الرئيس سلطاتٍ واسعةً، أثار مخاوفاً بشأن مستقبل استقلاليّة النساء. فعلى الرغم من أنّ عدد النساء في الأدوار الحكوميّة يبدو مبهراً بصرياً، إلّا أنّ ذلك لا يُتَرجم غالباً إلى تمكين حقيقيّ أو تقدمٍ في حقوق النساء. تكلّمت الانتقادات عن أن تمثيل النساء في نهج الحكومة الحاليّة هو تمثيلٌ رمزيٌ - أي أنّه أكثر تركيزاً على المظاهر من التغيير الجوهريّ - حيث لا تشغل السياسيّات النساء غالباً مواقع سلطةٍ أو مواقع اتخاذِ قرارات حقيقيةٍ. يشكّل هذا التوظيف الرمزيّ للخطاب حول تمكين النساء من قِبَل النظام الحاليّ تحدياً للتقدّم الّذي تمّ إحرازه سابقاً في استقلاليّة النساء في تونس، مشيراً إلى احتمال حدوث تراجعٍ بدلاً من حدوث تقدم.

إنارة طريق المستقبل

وفي كلٍّ من مصر وتونس، يشكّل النضال من أجل تمكين النساء اقتصادياً وسياسياً قوّةً مضادّة لظلال الاستبداد.. إن فهم ومعالجة الجذور التاريخيّة للاستبداد والأبويّة أمرٌ ضروريٌّ لتحقيق تقدمٍ حقيقيٍ نحو العدالة الاقتصاديّة والاجتماعيّة للنساء في دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. يجب على المجتمع الدوليّ والحكومات المحليّة التعاون لتفكيك هذه الممارسات الاستبداديّة ودعم تمكين النساء، مع الاعتراف بالدور المحوريّ الّذي يلعبه ذلك في تحقيق التنميّة الفعالّة والازدهار.

ريتاج إبراهيم هي شريكة مُؤَسِسة ومديرة مشاريع منظمة "كُن"، وهي كاتبة وناشطة تقاطعيّة تركّز على الجندر والجنسانيّة في منطقة جنوب غرب آسيا وشمال أفريقيا.

الآراء الواردة في هذا المقال لا تمثل بالضرورة وجهات نظر مؤسسة فريدريش إيبرت

Friedrich-Ebert-Stiftung

المكتب الإقليمي للجندر والنسوية

202491 1 961+
338986 1 961+
feminism.mena(at)fes.de

من نحن

الانضمام الى نشرتنا النسوية