يناقش هذا المقال كيف تتمّ إعادة إنتاج المجتمع على حساب أجساد النساء لخدمة وتعزيز هياكل السلطة الأبوية والرأسماليّة، وبالتالي تكريس اللامساواة الجندرية والاستغلال داخل النظم الاقتصادية.
عندما كنت فتاةً صغيرةً لا أتجاوز العاشرة من عمري أو نحو ذلك، كان العديد من أفراد عائلتي الممتدّة وصديقات/أصدقاء والديّ يسألونني عمّا أريد أن أكون عندما أكبر. كنت أجيب بكلّ صراحةٍ وفخرٍ: "طبيبةً في النهار وراقصةً شرقيةً في الليل". قُوبلت الحريّة في إجابتي هذه بالابتسامات والضحكات، وبدا على من تلقّت/ى هذه المعلومات الاستمتاع.
وبقدر ما يبدو هذا الإعلان صعباً من الناحية اللوجستيّة، نظراً لأنماط الحياة الصعبة والمتطلبة الّتي تنطوي عليها كلتا المهنتين، بدا أنّ العائق الأصعب أمام تحقيق حلمي هذا هو عائقٌ اجتماعيٌّ و"أخلاقيٌّ". كيف يمكن أن أحظى بالاحترام كطبيبةٍ إذا كنت سأرقص أمام الغرباء بحريّةٍ تامّةٍ وبملابس لا تتوافق مع ما هو "مقبولٌ عادةً"؟
على مدار القرن الماضي، تشكّلت الهويّة الوطنيّة والقوّة الاقتصاديّة على أجساد النساء في مختلف دول العالم. ترى دنيز كانديوتي بأنّه من أجل فهم التفاصيل الدقيقة لوضع النساء في مجتمعات منطقة جنوب غرب آسيا وشمال أفريقيا، يجب علينا دراسة عمليّات بناء الأمّم في الدول الحديثة وتحوّلاتها الاجتماعيّة والاقتصاديّة. في أوائل القرن العشرين، قامت المصلحات النسويّات بتضمين جهودهنّ ضمن الاستجابات الوطنيّة في مواجهة الإمبرياليّة والاستعمار الغربيّ، ممّا وضع النساء في قلب عمليّة بناء الأمّة. مثّلت أجساد النساء، إلى حدٍّ ما، وسيلةً تستطيع من خلالها الدول العربيّة إظهار "الحداثة" ليتم اعتبارها "متحضّرةً".
ومع ذلك، فإنّ فشل العروبة، وظهور أنظمةٍ استبداديّةٍ مدعومةٍ من القوى الغربيّة، والزيادة الكبيرة في اللامساواة الاجتماعيّة والاقتصاديّة على مدى العقود الثلاثة الماضية، ساهمت جميعها في خيبة الأمل الشعبيّة من نموذج الأمّة الحاليّ. ومهّد ذلك الطريق لازدهار السرديّات الدينيّة المحافظة في المجالين الاجتماعيّ والسياسيّ. لقد شكّلت الحركات الإسلاميّة المحافظة هويّاتها جزئيّاً بمعارضة "الغرب"، وفي صميم هذه الحركات توجد وجهات نظرٍ تمييزيّة حول النساء والفتيات قد عفا عليها الزمن، والّتي تقوم بإخضاع جميع الأجساد الّتي تقع خارج الرؤية الجندريّة الثنائيّة النمطيّة. وما تشترك فيه هذه الحركات الدينيّة المحافظة مع الحركات القوميّة المناهضة للاستعمار هو أنّها تشكّل هويّاتها من خلال أجساد النساء.
فعلى سبيل المثال، تمّ استخدام ارتداء الحجاب بين النساء المسلمات كسلاح لخدمة السرديّات المحافظة داخل المجتمعات العربيّة ولخلق فكرة "الآخر اللاأخلاقيّ والشرير" الّذي يُفترضُ أنّه الغرب، والّذي يجب محاربة قيمه. ولكن، فإنّ استخدام الحجاب كسلاحٍ يُشيّئُ أجساد النساء ويفرض "تسلسلاً هرميّاً أخلاقيّاً" على المجتمعات المحليّة. تصبح كلا النظرتين، التقدميّة الغربيّة والمحافظة الإسلاميّة، مصادراً لمراقبة النساء والسيطرة عليهنّ، حيث أنّهما تصدران أحكامهما على المحجّبات وغير المحجّبات على حدٍّ سواء. وفي كلتا الحالتين، تصبح أجساد النساء مسارحاً لكتابة الرؤى السياسيّة، غالباً على حساب استقلاليّة النساء الجسديّة.
ويُضاف إلى ذلك أنّه في العديد من البلدان، لا يمكن للنساء منح جنسيّتهنّ لأطفالهنّ. تُميّز القوانين الأبويّة هذه ضدّ النساء بحجّة حماية صورة وهويّة البلد. قد لا يُسمَح للنساء الاختلاط خارج المجموعة الّتي تُمثّل هويّتهنّ، وإذا اخترن القيام بذلك، فسيتمّ طردهنّ باسم حماية الفخر الوطنيّ. في الوقت نفسه، يمكن اعتبار هذا النوع من التمييز بمثابة تدخُّلٍ عنيفٍ باستقلاليّة النساء الجسديّة وانتهاكاً لحقّهنّ في الوجود والحبّ بحرّيةٍ. والحقيقة أنّ مسألة الجنسيّة هي مسألة متعددة الطبقات، ولا نكشف هنا إلّا عن جانبٍ واحدٍ منها.
بوضع أجساد النساء في قلب "المعركة ضدّ الغرب"، دفعت المجتمعات العربية بنفسها لبناء هويّتها الحديثة المعاصرة من موضع مواجهة، بدلاً من بناء هويّةٍ أصيلةٍ متعددة الأبعاد والطبقات، وتحترم التنوّع الموجود في المنطقة. ولأنّ أجساد النساء أصبحت تُستخدَم كأداةٍ في بناء الهويّة الوطنيّة، فإنّ النساء يُحرمْنَ من الاستقلال الاقتصاديّ ويُمنعنَ عن تحقيق التمكين الشخصيّ. لم يعد جسد المرأة نقاشاً تجريه كلّ امرأةٍ مع ذاتها من خلال تجاربها الخاصّة، بل أصبح ساحةً يمكن للبقيّة إلقاء مخاوف شخصيّة والسعي للحصول على السلطة فيها، سواء كانت اقتصاديّة أو اجتماعيّة أو شخصيّة.
إن التعمّق في السعي لتحقيق القوّة الاقتصاديّة وعلاقتها بأجساد النساء يقودنا إلى دراسة العمل الرعائيّ بشكل نقديٍّ. لن تستمر الأنظمة الاجتماعيّة والاقتصاديّة الحاليّة دون المساهمة الكبيرة لمقدّمات ومقدّمي الرعاية غير المأجورة. هؤلاء هنّ في الغالب نساءٌ وفتياتٌ. وبالتالي، فإنّ إعادة إنتاج أنظمتنا الاقتصاديّة يعتمد جزئيّاً على استغلال أجساد النساء والتقليل من قيمة أدوار الرعاية. إنّ أعباء الاقتصادات النيوليبرالية - بما في ذلك هياكلها ومؤسّساتها وعمليّاتها والواقع المعيشيّ - في منطقة جنوب غرب آسيا وشمال إفريقيا، تشكّل بعمقٍ حياة الفئات المهمّشة والمضطهدة. على سبيل المثال، تجد النساء العربيّات أنفسهنّ يتحملن العبء الأكبر من العمل غير المأجور؛ حيث أنّ 80 إلى 90 بالمائة من جميع أعمال الرعاية غير مدفوعة الأجر تقوم بها النساء.
وعلى العكس من ذلك، يشكّل العمل غير المأجور جزءاً كبيراً من الناتج المحليّ الإجماليّ، حيث يتراوح بين 9 و 20 بالمائة تقريباً. ويشير هذا إلى مساهمته الكبيرة في الاقتصاد، والّتي غالباً ما يتمّ تجاهلها في المقاييس الاقتصاديّة التقليديّة. في عالمٍ رأسماليٍّ يعتمد على الوصول إلى المال والسلطة، يُنظر إلى أولئك اللواتي ترعين الغير على أنهنّ "الطبقة الأدنى". وبالتالي، فإنّ النساء محصوراتٌ جزئيّاً في دور تقديم الرعاية الّذي يحرمهنّ، إلى حدٍّ ما، من الوصول إلى الاستقلال الاقتصاديّ: إنهنّ يفتقرن إلى الوقت والموارد والدعم.
لقد لعب الاستعمار الغربيّ دوراً رئيسياً وحاسماً في الديناميات السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة المعاصرة في دول جنوب غرب آسيا وشمال أفريقيا. كان الاستعمار، في جوهره وفي مظاهره، تمييزياًّ وعنصريّاً ومجندراً واستغلاليّاً. تؤكّد ليلى أحمد في كتابتها عن "التغيير الاجتماعيّ والفكريّ" في الشرق الأوسط، كيف حدّ الاحتلال البريطانيّ من توسّع التعليم في مصر، وخاصّةً قيامه باستبعاد الفتيات. قام الاستعمار بفرض رسومٍ مدرسيّةٍ، مما قلل من إمكانيّة وصول الطبقات الدنيا إلى التعليم. ثم قام بزيادة الرسوم في المدارس الابتدائيّة من أجل خفض معدّلات الالتحاق بسبب العدد الكبير من المتقدّمات/ين، مما أثّر سلباً على وصول الفتيات إلى التعليم الابتدائيّ. فضّلت العائلات إرسال الأولاد إلى المدرسة وإبقاء الفتيات في المنزل للمساعدة في الأعمال المنزليّة والاستعداد للزواج.
وبالنظر إلى وقتنا الحاضر، نجد أنّ مؤشّر الفجوة الجندريّة لعام 2023 يضع المنطقة العربيّة في المرتبة الأخيرة عالميّاً في تقدّم المساواة الجندريّة، بنسبة 62.6 بالمائة. ويأتي ذلك بعد انخفاض بنسبة 0.9 بالمائة عن نتيجة عام 2022 البالغة 63.4 بالمائة. ويعدّ التحصيل العلميّ أحد مكونات النتيجة الّتي تحقّق فيها المنطقة أعلى من المتوسّط بالنسبة للبلدان النامية منخفضة الدخل. وبخلاف ذلك، تحتلّ المنطقة العربيّة المرتبة الأدنى في المعايير الأخرى المتعلّقة بالمشاركة الاقتصاديّة والصحّة والبقاء والمشاركة السياسيّة للنساء. يلعب كلٌّ من الافتقار لسياساتٍ تستهدف مشاركة النساء في العمل، وانتشار المعايير الأبويّة، ودور الفروقات الثقافيّة "المفروضة،" دورًا رئيسيّاً في إعاقة التمكين الاقتصاديّ للنساء.
ويضع هذا النساء في موقفٍ متناقضٍ على ما يبدو: فهنّ يَفُقنَ الرجال عدداً في التعليم العالي، ومع ذلك فإنّ مستوى مشاركة النساء في القوى العاملة هو من بين أدنى المعدّلات في العالم. أي أنّ مجتمعاتنا "تنتج" نساءً متعلماتٍ ولكن يتمّ إبقاؤهنّ تحت السيطرة في وعاءٍ مغلقٍ، تحت ختمٍ محكمٍ، يضمن إعادة إنتاج المجتمع دون السماح للنساء أنفسهنّ بالازدهار. تصبح النساء المتعلّمات أمّهاتٍ متعلّماتٍ قادراتٍ على تعليم أطفالهنّ بشكلٍ صحيحٍ ويصبحن مقدّمات رعايةٍ فكريّةٍ إلى حدٍّ ما. يضع النظام السياسيّ الاقتصاديّ النساء في مركز عمليّة إعادة إنتاج المجتمع، بينما يتحكّم في استقلاليتهنّ الجسديّة. جادلت كانديوتي بأنّ تصوير النساء على أنهنّ ضامناتٌ لتعليم الأطفال وصانعاتٌ لأيديولوجيّات أسرهنّ جعلهنّ ضروريّاتٍ في حياة الأمّة، لكنّه لم يكن تحررياً للنساء. لقد أعطى النساء دوراً محدّداً لكنّه أبقاهنّ في قفصٍ من أجل الحفاظ على أنظمة القوّة المرغوبة وإعادة إنتاجها.
اليوم، يمكنني أن أقول بفخر أنّني وجدت التناغم الّذي كنت أبحث عنه في طفولتي. أتمنى لكلّ الأشخاص القدرة على العيش وتجسيد المشاعر التي في داخلهن/هم.
تقدّر هند حمدان التعاطف والنزاهة واللطف والمساهمة. عاشقةٌ للبحر، ومؤمنةٌ بقوّة الشفاء المجتمعيّ والكونيّ، وهي أيضاً متخصّصةٌ في الشؤون الجندريّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة وكاتبةٌ ومدرّبةٌ نسويّةٌ.
الآراء الواردة في هذا المقال لا تمثل بالضرورة وجهات نظر مؤسسة فريدريش إيبرت
المكتب الإقليمي للجندر والنسوية
202491 1 961+338986 1 961+feminism.mena(at)fes.de
This site uses third-party website tracking technologies to provide and continually improve our services, and to display advertisements according to users' interests. I agree and may revoke or change my consent at any time with effect for the future.
These technologies are required to activate the core functionality of the website.
This is an self hosted web analytics platform.
Data Purposes
This list represents the purposes of the data collection and processing.
Technologies Used
Data Collected
This list represents all (personal) data that is collected by or through the use of this service.
Legal Basis
In the following the required legal basis for the processing of data is listed.
Retention Period
The retention period is the time span the collected data is saved for the processing purposes. The data needs to be deleted as soon as it is no longer needed for the stated processing purposes.
The data will be deleted as soon as they are no longer needed for the processing purposes.
These technologies enable us to analyse the use of the website in order to measure and improve performance.
This is a video player service.
Processing Company
Google Ireland Limited
Google Building Gordon House, 4 Barrow St, Dublin, D04 E5W5, Ireland
Location of Processing
European Union
Data Recipients
Data Protection Officer of Processing Company
Below you can find the email address of the data protection officer of the processing company.
https://support.google.com/policies/contact/general_privacy_form
Transfer to Third Countries
This service may forward the collected data to a different country. Please note that this service might transfer the data to a country without the required data protection standards. If the data is transferred to the USA, there is a risk that your data can be processed by US authorities, for control and surveillance measures, possibly without legal remedies. Below you can find a list of countries to which the data is being transferred. For more information regarding safeguards please refer to the website provider’s privacy policy or contact the website provider directly.
Worldwide
Click here to read the privacy policy of the data processor
https://policies.google.com/privacy?hl=en
Click here to opt out from this processor across all domains
https://safety.google/privacy/privacy-controls/
Click here to read the cookie policy of the data processor
https://policies.google.com/technologies/cookies?hl=en
Storage Information
Below you can see the longest potential duration for storage on a device, as set when using the cookie method of storage and if there are any other methods used.
This service uses different means of storing information on a user’s device as listed below.
This cookie stores your preferences and other information, in particular preferred language, how many search results you wish to be shown on your page, and whether or not you wish to have Google’s SafeSearch filter turned on.
This cookie measures your bandwidth to determine whether you get the new player interface or the old.
This cookie increments the views counter on the YouTube video.
This is set on pages with embedded YouTube video.
This is a service for displaying video content.
Vimeo LLC
555 West 18th Street, New York, New York 10011, United States of America
United States of America
Privacy(at)vimeo.com
https://vimeo.com/privacy
https://vimeo.com/cookie_policy
This cookie is used in conjunction with a video player. If the visitor is interrupted while viewing video content, the cookie remembers where to start the video when the visitor reloads the video.
An indicator of if the visitor has ever logged in.
Registers a unique ID that is used by Vimeo.
Saves the user's preferences when playing embedded videos from Vimeo.
Set after a user's first upload.
This is an integrated map service.
Gordon House, 4 Barrow St, Dublin 4, Ireland
https://support.google.com/policies/troubleshooter/7575787?hl=en
United States of America,Singapore,Taiwan,Chile
http://www.google.com/intl/de/policies/privacy/