04.07.2024

اكتئاب ما بعد الولادة: بين نكران المجتمع والصعوبات الاقتصادية

يستكشف هذا المقال قضية اكتئاب ما بعد الولادة التي غالباً ما يتم تجاهلها في الجزائر، مستندًا إلى تجارب شخصية، وبالأخص تجربة والدة الكاتبة. ويسلط المقال الضوء على الوصمة الاجتماعية والتحديات الاقتصادية التي تتفاقم بسبب السياسات الاجتماعية والصحية غير الكافية التي تواجهها الأمهات المصابات باكتئاب ما بعد الولادة، مما يترك أثراً عميقاً على النساء وأسرهن.

يختلف اكتئاب ما بعد الولادة عما يُعرف بـ"البيبي بلوز" من حيث المدّة والحدّة. ففي حين أن "البيبي بلوز" هي مرحلة مؤقتة من الحزن وسرعة الانفعال تظهر بشكلٍ عام بعد بضع أيامٍ من الولادة، يمكن لاكتئاب ما بعد الولادة أن يظهر بعد أسبوعين إلى ثمانية أسابيع من الولادة وأن يستمر حتى عامٍ واحد. وفي هذا الصدد، تشير الدكتورة ستوبي إلى أن "أحد الجوانب المهمة في اكتئاب ما بعد الولادة هو أنه ليس مجرد شعور بالحزن". وغالبًا ما يتّسم بالقلق الحادّ وغيره من الأعراض الخطيرة.

إدراك واقعٍ أليم

في حزيران/يونيو 2022، نظّمت الجريدة النسوية الجزائرية ورشة عمل حملت عنوان "نساء ونسويات" في المدرسة النسوية التابعة لمؤسسة فريدريش إيبرت. وقد تم طرح العديد من الأسئلة خلال ورشة العمل هذه، ومنها السؤال التالي: من أين تأتي نسويّتنا؟ وأجبتُ بأنها تأتي من واقعي وواقع النساء الأخريات من حولي. نسويّتنا تنبع من "اللماذا" التي تلوّع كلّ واحدةٍ منّا. لماذا تعرّضتُ للعنف؟ لماذا كانت جارتي تتعرّض للاغتصاب من زوجها؟ لماذا عاشت أمي هذه القسوة كلّها خلال حياتها؟

سُئلتُ أيضًا عن مشروعي النسوي، وأجبتُ بأنّه "تعميم موضوع اكتئاب ما بعد الولادة". وهنا أيضًا، كنتُ أتساءل لماذا. لماذا كانت أمّي تكرهني؟ لماذا كان الجميع يقول لي إنني وُلدتُ من أمٍّ مجنونة؟ لماذا كانت أمّي تدخل مستشفى الأمراض النفسية مرتين إلى ثلاث مراتٍ في السنة؟ ولماذا كانت تعتقد أن الجميع في مكان عملها ينظر إليها بطريقةٍ غريبة؟ لماذا تركت منصبها؟ وأخيرًا، لماذا اختارت أن تعيش في وضعٍ حرجٍ كهذا؟

الجنون ليس بتشخيص

كانت أمّي تبلغ من العمر ثلاثةً وعشرين عامًا عندما وُلدتُ مبكرةً. وقال لها الأطباء إنني كنتُ صغيرةً جدًا وإنه من غير المحتمل أن أعيش. خلال اليومين الأولين، وجدت نفسها في وضعٍ صعب. فلم تكن قادرةً على لمسي ولم ترد الاقتراب مني. كانت قلقةً وضائعةً، ولم تكن حالتها ستتحسن عند خروجها من المستشفى. لاقت أمّي رفضًا من أسرتها وأسرة زوجها، وأصبحت بذلك من دون مرجعٍ أو مصدر دعم. وجاءت ولادتي لتزيد الطين بلّةً. فقد كانت تأمل أن تلد صبيًا، أو على الأقل فتاةً بصحةٍ جيدة وبشرة فاتحة، كما كانت تقول غالبًا.

منذ عمرٍ مبكرٍ، فهمتُ أنها لم تحبّني يومًا. وغالبًا ما تساءلتُ لماذا. وكانت الإجابة الوحيدة التي حصلتُ عليها هي التالية: "إنها مريضة. أمّك مجنونة." فلم يكن أحد يفهم أنها كانت تعاني من اكتئاب ما بعد الولادة غير المشخّص الذي كان يتطوّر إلى انفصام الشخصية.

كانت أمّي في الثامن والعشرين من عمرها عندما تطلّقت. وبعد هذا الطلاق، وجدت نفسها وحيدةً، من دون أسرة ومن دون وظيفة، والأهم من ذلك، من دون تشخيصٍ لحالتها. كانت تعاني من مرضٍ تجهله. وفي غياب دعم أسرتها، قرّرت حضور تدريبٍ حول السكرتارية الطبية ووجدت بعد ذلك وظيفةً في أحد المستشفيات الحكومية. أمّي، التي لم تكن قادرةً على الاعتناء بنفسها، وجدت نفسها تعمل في قطاعٍ كان عليها فيه أن تعتني بالأشخاص الآخرين وتراعي مزاجهم. وتجدر الإشارة هنا إلى أن قطاعات الإدارة العامة والتجارة والخدمات تضمّ نسبةً كبيرةً من النساء العاملات تبلغ 89.9%، إذ إنّ قطاعات الخدمات توظّف النساء بشكلٍ أساسي، والأهم أن ذلك مقابل أجور متدنية.

كانت أمّي تتقاضى راتبًا شهريًا يبلغ 30 ألف دينار جزائري كان يسمح لها بشراء الطعام وبعض الملابس. إلا أنها كانت تعاني من اكتئاب ما بعد الولادة غير المشخّص والذي تطوّر إلى انفصام الشخصية. "بالنسبة إلى ذهان بعد الولادة، قد يترافق الاكتئاب مع أفكار انتحارية أو عنيفة أو هلوسات أو سلوك غريب. وأحيانًا ينطوي ذهان ما بعد الولادة على رغبة في إلحاق الأذى بالصغير(ة)" (أدلة MSD). وبسبب هذا المرض الجديد، أصبح العمل مسؤوليةً كبيرةً لم يعد بمقدورها أن تتحمّلها. فطلبت إجازةً مرضيةً طويلة الأجل برّرها دخولها المتكرر إلى مستشفى الأمراض النفسية فضلًا عن الآثار الجانبية للعلاج (مثل الضعف الجسدي والتعب، إلخ.). وأصبحت بذلك وحيدةً في بيتها وتتقاضى الحد الأدنى للأجور الذي كان يبلغ 17 ألف دينار جزائري في الشهر.

الأمهات اللواتي يعانين من اكتئاب ما بعد الولادة بحاجة إلى الدعم متعدد الأشكال

إنّ اكتئاب ما بعد الولادة مرضٌ نادرًا ما يُحكى عنه في الجزائر، وغالبًا ما يوصَف بالجنون أو الخرف، من بين تسمياتٍ أخرى. فلا تفهم الأسرة الجزائرية أن رفض الأمّ لمن أولدت وشعورها بالتعب المزمن والقلق وتصرّفاتها التي يصعب فهمها كلّها أعراضٌ تظهر نتيجة الإصابة بمرض. هذا ولا تفرض الهيكليات الطبية القائمة أي متابعة لحالة الأمّ بعد الولادة، وتولي الأهمية لصحّة الطفل(ة) فحسب من دون النظر في صحة الأمّ.

يساهم كل من نقص الوعي الاجتماعي وغياب سياسات الصحة العامة التي تأخذ على عاتقها المتابعة الطبية النفسية الإلزامية والمجانية للأمهات في تعزيز تهميش هؤلاء النساء اللواتي يعانين من مرضٍ يرفض محيطهن الاعتراف به. فلا يطال اكتئاب ما بعد الولادة الأمّ وحدها، بل يؤثر على الأسرة بكاملها.

ولكن من سيهتمّ بهؤلاء النساء؟ من سيستمع إليهن؟ أي جهةٍ ستفكّر في أخذ جلسات العلاج لدى الأخصائي(ة) أو الطبيب(ة) النفسي(ة) على عاتقها؟ من سيوفّر لهن مضادات الاكتئاب؟ ومن سيأخذ معاناتهن على محمل الجدّ؟

معركة العمل

"بلغت نسبة توظيف النساء في الجزائر 12.9%"، هذا ما قاله عالم الاقتصاد مولود هدير في حلقة النقاش الأولى من اللقاءات الصباحية للمؤسسة الفكرية حول الشركات والسياسة الاقتصادية (CARE)، بحسب مقالةٍ نشرتها جريدة المجاهد في 6 آذار/مارس 2022. ولكن تجدر الإشارة أيضًا إلى أن النساء يحملن 63% من إجمالي شهادات الدراسات العليا في الجزائر، بحسب اليونسكو. ويعكس هذا الواقع المعركة التي يخضنها النساء الجزائريات من أجل العثور على وظيفة. فإذا كان من الصعب على النساء من حاملات الشهادات العثور على وظيفةٍ مستقرةٍ تسمح لهن بتحقيق الاستقرار المالي، فماذا نقول إذًا عن النساء المصابات بمرضٍ مثل اكتئاب ما بعد الولادة اللواتي يحاربن على عدّة جبهاتٍ في حياتهن اليومية؟

أشارت النساء اللواتي تناقشت معهن في هذا الموضوع إلى أنه في حالتهن، كان العثور على وظيفةٍ جديدة مهمّةً شاقّة. ففي غياب الدعم العائلي أو دعم من صداقة أو علاقة، غالبًا ما يفقدن الطاقة والقدرة لبدء مسيرةٍ مهنيةٍ جديدة أو العودة إلى منصبٍ شغلنه في السابق، من أجل تأمين استقلاليتهن الماديّة. فتشعرن بالعجز عن التعامل مع الضغط والإجهاد اللذين يسببهما العمل وعناصره. وفي حالاتٍ أخرى مثل حالة اثنين من النساء اللواتي التقيت بهن، وجدتا نفسيهما وحيدتين بعد الطلاق وقرارهما تولّي حضانة أطفالهما، وبالتالي ضرورة تلبيتهما لكافة احتياجات هؤلاء الأطفال. فتمكّنتا من العثور على عملٍ في التنظيف المنزلي لدى أشخاص كانوا يدفعون لهما ألفَي دينار جزائري للبيت الواحد، وهو مبلغٌ لا يكفي حتى لاستئجار مسكن. ونتيجةً لذلك، أُرغمت كلّ واحدة منهما على العودة للعيش في بيت والديها اللذين لا يقبلانها بالكامل ويعتبرانها هي وأطفالها عبئًا كبيرًا.

من الممكن توفير حياةٍ أفضل لهؤلاء النساء

اكتئاب ما بعد الولادة هو مسألة بارزة في مجال الصحة العامة يجدر إيلاء الأهمية الطارئة لها. وإذا كان بإمكاننا أن نتحدّث اليوم عن الاضطرابات ثنائية القطب وانفصام الشخصية وغيرها من الأمراض النفسية، فمن الممكن أيضًا أن نكسر الصمت المحيط باكتئاب ما بعد الولادة، ليتم استفادة من ت/يعاني من الاضطرابات النفسية من المتابعة الطبية والضمان الاجتماعي والعمل في قطاعاتٍ متنوّعة. وإذا كان بمقدورهن/م عيش حياةٍ سهلة الإدارة إلى حدٍ ما، فيعود الفضل بالتأكيد إلى العلاجات والاستقبال وسهولة التشخيص وإلى تعميم هذه الأمراض النفسية والعقلية. هذا ويمكن تسهيل الازدهار المهني للأمهات الجدد بدءًا بالاعتراف باكتئاب ما بعد الولادة على أنه مسألة للصحة العامة. ومن الضروري أيضًا تدريب العاملات والعاملين في القطاع الطبي على رصد أعراض اكتئاب ما بعد الولادة ودعم النساء المعنيات به. ودعونا لا ننسَ دور إدارات الموارد البشرية في هذا الصدد، إذ يجب توعية عناصرها حول هذا الموضوع من أجل خلق بيئةٍ واعية ومتفهّمة تراعي حاجيات الأمهات الجدد بعد العودة إلى الحياة المهنية.

يمكن للاستثمار في سياسات الصحة العامة الرامية إلى مكافحة اكتئاب ما بعد الولادة ومعالجته أن يحمل آثارًا اقتصاديةً إيجابيةً على مستوى الأسرة كما المجتمع ككلّ. ذلك بأن تصبح الأمهات مستقلات ماديًا، وقادرات بالتالي على تلبية حاجاتهنّ وأولادهنّ في ظل نظامٍ لا يؤمن أبسط الحقوق كالسكن والمتابعة الطبيّة والتعليم، وغيرها. فبتأمين بيئات عمل تتناسب مع ظروف العاملات والعاملين فيها، لا تضطر الأمهات على العيش بمظلومية وعدم استقرار.

ختامًا، لا يشكّل اكتئاب ما بعد الولادة مسألة صحة عقلية فحسب، بل أيضًا مسألةً اقتصادية. وتقتضي الحلول الهادفة إلى مكافحة هذا المرض اعتماد مقاربة متكاملة تشمل الدعم الطبي والاجتماعي والاقتصادي من أجل تحسين جودة حياة النساء اللواتي يعانين من اكتئاب ما بعد الولادة وأُسرهن.

صوفيا عكاب هي ناشطة نسوية جزائرية حاصلة على شهادة وطنية في الفنون البصرية. تكرس جهودها لنشر الوعي حول اكتئاب ما بعد الولادة في الجزائر، بهدف الاعتراف به كقضية صحة عامة.

الآراء الواردة في هذا المقال لا تمثل بالضرورة وجهات نظر مؤسسة فريدريش إيبرت

Friedrich-Ebert-Stiftung

المكتب الإقليمي للجندر والنسوية

202491 1 961+
338986 1 961+
feminism.mena(at)fes.de

من نحن

الانضمام الى نشرتنا النسوية