30.05.2024

لا حق في الاستقلالية الجسدية دون عدالة اجتماعية وتحرر

يؤكد هذا المقال استحالة تحقيق الاستقلالية الجسدية الكاملة بدون معالجة القضايا البنيوية كالتمييز الجندري، الرأسمالية، والاستعمار. كما ويشدد على كون الاستقلالية الجسدية حق إنساني أساسي ذات صلة وثيقة بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية الأوسع، ويناصر وجود إطار عدالة يتناول الأسباب الجذرية للاضطهاد من أجل تحقيق التحرر الحقيقي.

لا يمكن تحقيق الإعمال الكامل لحقّ الاستقلاليّة الجسديّة دون الانفصال عن الديناميات السلطويّة الراسخة للتمييز القائم على الجندر، والرأسماليّة والاستعمار، بالإضافة لأنظمة القمع الأخرى. إن قدرة الأفراد على تقرير مصائر أجسادهم الجسد هي أوّل شكلٍ من أشكال التحرُّر ولا يمكن فصلها عن تحرير الأرض ولا عن استغلال السياسات النيوليبراليّة.

الاستقلاليّة الجسديّة هي حقٌّ من حقوق الإنسان

على الرغم من وصف الخطاب الرجعيّ الحاليّ للحقّ في الاستقلاليّة الجسديّة بأنَّه "حقٌّ جديدٌ"، فهو مُكرَّسٌ في إعلان ومنهاج عمل بيكين لعام ۱٩٩٥، وكان جزءاً لا يتجزّأ من المعاهدات الدوليّة لحقوق الإنسان منذ بدايتها، فهو موجودٌ في مبادئ الخصوصيّة والسلامة الجسديّة.

ومنذ ذلك الحين، أُعيد التأكيد على هذا الحقّ في مُختَلَفِ الوثائق الّتي تمّ التفاوُض عليها سياسيّاً في المحافل الدوليّة، مثل مجلس حقوق الإنسان، والجمعية العامة للأمم المتحدة، ولجنة وضع المرأة، وغيرها، وفي عمل المحاميّات/ين والخبيرات الدوليّات والخبراء الدوليين المُكَلَفات/ين بتفسير معايير حقوق الإنسان.

إنّ الحقّ في الاستقلاليّة الجسديّة أمرٌ بالغ الأهمية لإعمال حقّ عدم التمييز. إن أعمال العنف، والإكراه، وعدم احترام الموافقة على ممارسة الجنس، والحرمان من الوصول إلى المعلومات والخدمات المتعلقة بالصحّة الجنسيّة والإنجابيّة، واختبار العذريّة، كلها تمثل انتهاكاتٍ لهذا الحقّ ومازالت شائعةً في جميع أنحاء العالم، ولا سيما في جنوب غرب آسيا وشمال أفريقيا. هناك اعتراف ضمن القانون الدولي لحقوق الإنسان بأنَّ الحقّ في الاستقلاليّة الجسديّة يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمجموعةٍ أوسع من الحقوق، بما في ذلك الحقوق الاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة.

نحو نهجٍ تحرريٍّ للعدالة الإنجابية

لقد ركَّزَت الحركة النسويّة الغربيّة بشكلٍ مُفرطٍ على الحقّ في الاستقلاليّة الجسديّة إلى حدّ فصلِه عن مجموعةٍ أوسع من الحقوق، والأهمّ من ذلك، فصلِه عن الأسئلة المرتبطة بالحقّ في الاستقلاليّة الجسديّة في ظلّ الرأسماليّة والاستعمار. إنَّ شعار "جسدي، خياري"، رغم فعاليّته إلى حدٍّ ما، ليس سوى جزءٍ واحدٍ ممّا ينبغي أن يكون تحقيقاً أوسعاً حول كيفيّة تَشَكُّل الحقّ في الاستقلاليّة الجسديّة في ظلّ التمييز المتداخِل، حيث تتفاعل نُظُم القمع وتؤثر على الفئات المهمّشة الّتي لا يُعتَرَف بوضعِها في كثير من الأحيان ضمن أيّ إطارٍ تشريعيٍّ معينٍ. ولذلك تقتضي الحاجة الانتقال من إطار حقوقٍ إلى إطار عدالةٍ لا ينظر إلى الأُطُر التشريعيّة فحسب، لكن أيضاً إلى بناء مجتمعاتٍ صحيّةٍ وإلى تحسين الظروف الماديّة.

تعجز الأُطُر التشريعيّة في العديد من بلدان منطقة جنوب غرب آسيا وشمال أفريقيا، إلى حدٍّ كبيرٍ، عن الامتثال للمعايير الدوليّة لحقوق الإنسان. في هذه السياقات، يتعين على النساء والفتيات والأشخاص ذوي التوجهات الجنسيّة والهويّات الجندرية والخصائص الجنسيّة المتنوعة مواجهة معاييرٍ اجتماعيّةٍ أبويّةٍ متحيّزةٍ جنسياً ومعاديةٍ للعبور الجنسيّ والمثليّة الجنسيّة. وغالباً ما تُتَرجم هذه المعايير إلى قوانين وممارساتٍ رسميةٍ في تلك البلدان. إضافةً لذلك، يتعين عليهنّ/م مواجهة عوائق اقتصاديّةٍ وجسديّةٍ كبيرةٍ تحْول دون الوصول إلى المعلومات والخدمات الضرورية المتعلقة بالصحّة الجنسيّة والإنجابيّة. وينطبق هذا بشكلٍ أكبر على الأشخاص الذين يواجهون تمييزاً متعدد الجوانب، مثل عاملات وعُمّال الخدمة المنزليّة ممّن تواجهن/يواجهون العنصريّة المؤَسساتيّة وكراهيّة الأجانب، وعلى الأشخاص ذوي الإعاقات المُمَيّز ضدهنّ/م وبحاجةٍ إلى الرعاية المناسبة وفرص المشاركة الفعّالة.

ويتجلّى هذا على سبيل المثال في تهميش حُقوق الصحّة الجنسيّة والإنجابيّة ضمن موازنات الصحّة وبرامج الاستجابة الإنسانيّة. وفي منطقةٍ متأثرةٍ بشكلٍ كبيرٍ بالاستعمار والحروب والقمع السياسيّ والصراعات وحالات الطوارئ البيئيّة، يؤدي ذلك إلى تفاقم التهميش المتجذّر بالفعل على أساس الجندرية والمساواة. إن هذا التهميش هو أيضاً نتاجٌ للتمييز الجندري، حيث غالباً ما يتمّ تجاهل القضايا الّتي يُنظر إليها على أنّها "قضايا نسائية". تَحظى خدمات صحّة الأمومة، والّتي تتماشى مع الأدوار الجندريّة المقبولة اجتماعيّاً و”المشروعة أخلاقياً “، باهتمامٍ وموارد أكبر من الخدمات الأخرى، كخدمات الإجهاض ووسائل منع الحمل والصحّة الجنسيّة.

يتفاقم هذا الإهمال لمبدأ الاستقلاليّة الجسديّة في السياسات العامّة بسبب الدافع النيوليبرالي، ويقترِن به، والّذي غالباً ما يكون مدفوعاً من قِبَل مؤسساتٍ دوليّةٍ مثل صندوق النقد الدوليّ والبنك الدوليّ لتنفيذ تدابير تقشّفيّة تؤثّر في المقام الأول على النُظُم الصحّيّة والتعليميّة العامّة الهشَّة بالفعل. يؤدي هذا إلى تآكلٍ متزايدٍ في نُظُم الصَحّة العامّة وإلى زيادة معدّلات الخصخصة في قطاع الصحّة في بلدان مثل لبنان والأردن. تساهم هذه التوجّهات في توسيع الفجوات في المساواة الصحيّة وخلق نُظُم صحّيّة ثنائيّة المستوى، حيث يمكن للأشخاص الأثرياء فقط الوصول إلى رعايةٍ عالية الجودة والمعلومات والخدمات.

الاستعمار والاستقلاليّة الجسديّة

ومما يُفاقم الآثار السلبيّة للتمييز الجندري والرأسماليّة والنيوليبراليّة، استخدام القوى الاستعمارية كإسرائيل لحقّ الاستقلاليّة الجسديّة في تبرير التطهير العرقيّ والإبادة الجماعية وغيرها من الغايات القمعيّة. فمنذ بدء احتلالها لفلسطين، قامت إسرائيل بانتهاك الحقوق الإنجابيّة للنساء الفلسطينيّات. وقد اعترفت محكمة العدل الدوليّة بأنّ مثل هذه الانتهاكات تساهم في جريمة الإبادة الجماعيّة المستمرّة في غزّة. استخدمت إسرائيل أيضاً الغسيل الوردي - مُدَّعيةً احترام حقوق الاستقلاليّة الجسديّة لأفراد مجتمع الميم عين - من أجل التغطية على انتهاكاتها ضدّ فلسطينيّات وفلسطينيّ هذا المجتمع، ممّن هددت بفضحهنّ/م أمام عائلاتهنّ/م ومجتمعاتهنّ/م ما لم تلتزمن/يلتزموا بمطالبها.

ومن الجدير بالذكر أيضاً أنّ عدم إعمال حقّ الاستقلاليّة الجسديّة في منطقة جنوب غرب آسيا وشمال أفريقيا هو نتيجةٌ مباشرةٌ لمعايير المؤسسات الماليّة العالميّة في منح القروض، فضلاً عن إعطاء الجهات المانحة الأجنبيّة الأولويّة لمسائل الحقوق الجنسيّة والإنجابيّة وقضايا الهويّات الكويريّة. إنّ تركيز النهج الغربيّ على الحقوق، واعتبارها استحقاقاً فردياً يُستَخدَم كأساسٍ للمواجهة، يميل إلى تجاهل المبادرات الّتي تهدف إلى تحقيق العدالة الإنجابية، والّتي تتناول بدورها العوامل الاجتماعية وغيرها من المحدِّدات الّتي تؤثِّر على الظروف الصحيّة والماديّة، وبالتالي تجعل تطبيق الحقّ في الاستقلاليّة الجسديّة ممكنًا. كَما أنّ هذا الإهمال للحقوق الاجتماعيّة والاقتصاديّة وقضايا الاقتصاد السياسيّ مثل تخفيف عبء الديون، والتغطية الصحّيّة الشاملة، والحصول على الأدوية، والمبادرات الراميّة إلى التشكيك في دور الشركات في انتهاكات حقوق الإنسان أو نزع عسكرة المجتمعات، يحْول دون تطبيق إطار عدالةٍ إنجابيّةٍ. على سبيل المثال، أدّى التمويل المتزايد للمشاريع المعنيّة بالزواج المبكر والزواج القسري في لبنان، في أعقاب الحرب في سوريا، إلى إطلاق عدّة حملاتٍ استهدفت هذه الممارسات دون معالجة أسبابها الجذريّة بفعاليّة أو دعم المبادرات الّتي من شأنها ضمان عدم تكرارها.

يؤدّي هذا الموقف النيوليبرالي إلى تفاقم التمييز الجندري الموجود أصلاً، كما يجعل النسيج الاجتماعيّ والسياسيّ المحليّ لدول جنوب غرب آسيا وشمال أفريقيا أكثر عرضةً لخطاب اليمين المتطرف الرجعيّ المحافظ والمتزايد الذي تُروّج له الكنائس الكاثوليكيّة والأرثوذكسيّة ومعظم المنظّمات الإنجيليّة في أمريكا الشماليّة. وتكمن نقطة دخول هذه المنظّمات إلى المجتمعات المستهدفة في استخدامها الرفاهيّة الاقتصادية "للعائلة" - أو على الأقل تركيزها على الأسرة المُصَغّرة - كمحرّضٍ ضدّ الحقّ في الاستقلاليّة الجسديّة. تقوم هذه الجهات الفاعلة المحافظة بتحريف أيّ جهدٍ مبذولٍ نحو تحقيق الاستقلاليّة الجسديّة، واستبداله بمحادثاتٍ حول الظروف الاجتماعيّة والاقتصاديّة لـ "الأسرة". وسيكون من الصعب ممارسة هذا النوع من الاستغلال إذا أُخذ الجانب الاقتصاديّ السياسيّ لحقّ الاستقلاليّة الجسديّة في عين الاعتبار.

يميل التعامل مع الاستقلاليّة الجسديّة كحقٍّ فرديٍّ إلى تجاهل العقبات الرئيسيّة الّتي تحْول دون إعمال هذا الحقّ. فمن خلال إعتبار هذا الحقّ دليلاً على التقدميّة وشرطاً لتقديم المساعدات، تغذي القوى والمؤسسات الغربيّة الخطاب الذي يعتبر الحقوق الجنسيّة والإنجابيّة مستورداً غربياً (وغالباً ما يتمّ استغلال هذا كأداة من قِبَل الأنظمة القمعيّة في منطقة جنوب غرب آسيا وشمال أفريقيا). ويتمّ بعد ذلك استخدام الناشطات/ين المحليّات/ين العاملات/ين على هذه القضايا ككبش فداء واتهامهنّ/م بأنهنّ/م عميلات وعملاء للغرب، مما يؤدّي إلى تفاقم التدقيق الحاليّ الذي تواجهنه/يواجهونه والقيود المفروضة على عملهنّ/م. إن غياب موقفٍ مبدئيٍّ يتماشى مع القانون الدوليّ من قِبَل القوى الغربيّة بشأن تحرير فلسطين، ومعاييرها المزدوجة الواضحة في إعطاء الأولويّة لحقوق الصحّة الجنسيّة والإنجابيّة داخلياً وفي سياساتها الخارجيّة، بالإضافة لعدم معالجة الانتهاكات الصارخة للحقوق الجنسيّة والإنجابيّة الّتي ترتكبها إسرائيل في فلسطين، تعزز هذه الديناميّة أيضاً.

إن الحقّ في الاستقلاليّة الجسديّة هو أكثر من مجرد حقٍ فرديٍّ، فهو يتطلَّب المزيد من التغيير المنهجيّ الّذي يتضمّن عملياتٍ تشريعيّةٍ أكثر جوهرية، على أقلّ تقدير، إلى أن يتم تحدّي أنظمة القمع الهيكليّة وتفكيكها ووضع ديناميّات جديدة.

باولا سلوان ضاهر ناشطة نسويّة، وحقوقيّة دوليّة، وزميلة دوليّة أولى في معهد الأصفري للمجتمع المدني والمواطنة. تتمتّع باولا بخبرة ۱٥ عامًا في العمل في مجال حقوق النساء والفتيات، والمساواة الجندريّة، والحقوق الجنسيّة والإنجابيّة. وتشمل مجالات خبرتها أيضاً المناصَرة في المحافل المتعددة الأطراف، والروابط بين حقوق الإنسان الدوليّة والقانون الإنسانيّ.

الآراء الواردة في هذا المقال لا تمثل بالضرورة وجهات نظر مؤسسة فريدريش إيبرت

Friedrich-Ebert-Stiftung

المكتب الإقليمي للجندر والنسوية

202491 1 961+
338986 1 961+
feminism.mena(at)fes.de

من نحن

الانضمام الى نشرتنا النسوية