23.05.2024

الإبحار في الذَّنب؟ قراءة في هشاشة مفهوم الهويّة الألمانيّة من منظورٍ نسَويٍّ تقاطعيٍّ

يناقش هذا المقال كيف أنّ تاريخ ألمانيا وهوّيتها قد شَكَلتا التوجُه الأخلاقي للبلاد تجاه إسرائيل. لا توجد مساحة كافية هنا لمناقشة الآثار المُتَرَتِبة على سياسة ألمانيا الخارجيّة

نظرت محكمة العدل الدوليّة، في 8 نيسان/أبريل 2024، في قضيّة نيكاراغوا ضد ألمانيا بشأن دعم الأخيرة للحرب الإسرائيليّة على غزّة. وجاء في التّقرير المقدم من نيكاراغوا أنّه "من خلال إرسال معدّاتٍ عسكريّةٍ ووقف تمويل الأونروا الآن [وكالة الأمم المتّحدة لللاجئين الفلسطينيين] [...] فإن ألمانيا تُسهّل ارتِكاب الإبادَة الجماعيّة". وهيَ ادّعاءاتٍ كبيرةٍ بحقّ أي دولة، لاسيما بحقّ قوّةٍ غربيّةٍ ظلّت تُعتَبر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية منارةً للديمقراطيّة وحقوق الإنسان.

المَصلحة الوطنيّة الألمانيّة العليا

في أعقاب تَوَغّل حماس في إسرائيل في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، واجَهت العديد من الدّوَل الغربيّة - بما في ذلك الولايات المتّحدة، المملكة المتّحدة، وألمانيا - تمحيصاً أخلاقياً بسبب مواقفها السياسيّة، وتحديداً من قِبَل ما يسمّى بالجّنوب العالميّ. إنّ علاقة ألمانيا بإسرائيل مُتأصّلَةً بِعمقٍ في اعتِرافها بالمسؤوليّة عن المحرقة اليهوديّة ودعمها اللاحق لإنشاء وطنٍ قوميٍّ لليهود. وقد ظلّ التزام ألمانيا بأمن إسرائيل ثابتاً، لَكن تعرّض هذا الدّعم الثابت للانتقاد كونه يتجاهل المعاناة المستمرة للشَعب الفلسطينيّ، مما يُثير تساؤلاتٍ حول الاتّساق الأخلاقيّ لألمانيا ووحدتها الاجتماعيّة.

تزعم ألمانيا - وهو ما قد فعلته حقّاً - أنّها لعبت بالفعل دوراً خاصاً في تاريخ دولة إسرائيل. فبعد المحرقة، والّتي أودت بحياة أكثر من ستة ملايين يهوديّ ويهوديّة، تمّ طرح خطط لإنشاء وطنٍ قوميٍّ للشعب اليهوديّ. وتمّ تحقيق هذه الخطط في 14 أيار/مايو 1948، عندما أعلَن ديفيد بن غوريون قيام دولة إسرائيل على أرض فلسطين الخاضعة وقتها للانتداب البريطانيّ. واستمرّ كون مصير هذه المنطقة قيد المناقشة منذ أواخر القرن التاسع عشر، عندما كانت لا تزال جزءاً من الإمبراطوريّة العثمانيّة. ومنذ ذلك الوقت وحتى عام 1948، هاجر مئات الآلاف من يهود أوروبا إلى فلسطين هرباً من معاداة الساميّة الصاخبة هناك، والتي شكّلت تجربة المحرقة ذروة فظائعها المُرتَكَبة ضدّ هذا الشعب.

وقد أصبح إعلان المستشارة الألمانيّة، أنجيلا ميركل، في الكنيست في عام 2008 بأن "أمن إسرائيل بالنسبة لي كمستشارة ألمانيا الاتحاديّة غير قابل للتفاوض أبداً" حجر أساس في السياسة الخارجيّة الألمانية، حتّى أنَّه تمّ وصفه بأنَّه داعي المصلحة العليا في ألمانيا، وخاصةً في ضوء الأحداث الأخيرة. وقد تعرَّض هذا الموقف لانتقادات بسبب غضّه الطرف عن محنة الشعب الفلسطينيّ. كما قدّ أثار عدم التوازن هذا في النهج الألماني جدلاً داخل البلاد، حيث تساءل البعض عمّا إذا كان السعي لتحقيق المصالح الأمنيّة الإسرائيليّة يجب أن يأتي على حساب حقوق الشعب الفلسطينيّ وأرواحهن/م. وقد أظهرت حدّة هذا النقاش مدى التذبذب الذي تتّسم به هذه القضية في المجتمع الألمانيّ المعاصر.

أن تكون ألمانيّاً "حقيقيّاً"

ماذا يعني أن تتصالح الأمّة مع هذا الجانب المهمّ من ماضيها عندما يفتقر سكانها المعاصرون بشكل متزايد إلى الرابط المشترك مع ذلك الماضي؟ لقد قامت قوانين الجنسيّة الأوروبيّة لفترة طويلة بتعريف الجنسيّة بناءً على روابط الدم. والواقع أن الهوية الألمانية لا تزال تشير ضمناً في نظر بعض الأشخاص إلى ارتباطٍ سلفيٍّ بعهد النازيّة، وبما يترتب على ذلك من التزامٍ أخلاقيٍّ قوميٍّ للتعامل معه. ولكنّ تعريفات الهويّة الألمانيّة قد تغيّرت خلال القرن الحادي والعشرين بطرقٍ معقدةٍ، ولم تعد تلك الروابط السلفيّة معاييراً كافيةً لتحديد ما معنى أن تكون ألمانياً.

يُشكّل الألمان من خلفيّاتٍ مهاجرةٍ أكثر من 28% من الشعب الألمانيّ اليوم. وبالنسبة لشخص لا يمكن أن تُحتوى خلفيّته الشخصيّة ضمن حدود ألمانيا فقط، فقد يكون انتمائه أقل ارتباطاً بمشاركة الأسلاف في المشروع النازي. كما أن الشعور بالذنب المرتبط بقبول المسؤولية عن المحرقة قد يكون أقل تأثيراً. ولا يُظهِر هؤلاء ذلك الانتماء من خلال الولاء الأعمى لجانبٍ واحدٍ في الصراع الإسرائيليّ الفلسطينيّ.

فبالنسبة للكثير، يتعلَّق الأمر أكثر بالتعامل مع الواقع الاجتماعيّ والسياسيّ المعاصر، وتتشكّل الهويّة الوطنيّة لديهنّ/م حول رؤى مشتَرَكة لدور ألمانيا في العالم. ومن المرجَّح أن يؤدي الإصرار على تبني مفاهيم الهوية الألمانية التي لم تعد تعكس التجارب الحية والموروثة للألمان المعاصرات/ين إلى الانسلاخ عن الهوية وتآكل التماسك المجتمعي.

إعادة إنتاج أنظمة القمع

تتجلّى مشكلة الهويّة هذه في السياسة الألمانيّة الحاليّة على المستويين المحليّ والخارجيّ، حيث ليست معاداة الساميّة سوى شكلٍ واحدٍ من أشكال القمع المتأصّل هيكلياً في البنية التنظيميّة للدّولة الألمانيّة. وعلى الرغم من وجود وعيٍ كبيرٍ في المجتمع الألمانيّ بهذا الشأن، إلا أن التقاطعيّة تعلمنا أن أنظمة القمع تتداخل. وبالتالي، فإنّ التركيز المفرط على إحدى هذه الأنظمة بعينه لن يعالج الظلم بشكلٍ شاملٍ أبداً، بل سيجعل الجميع، حتّى أولئك الّذين لا يتأثّرون بشكلٍ مباشرٍ بأيٍ من هذه الأنظمة، أكثر افتقاراً للأمان.

لقد كان التركيز المفرط على معاداة الساميّة والمحرقة عاملاً مهماً في الأخلاق والوعي الألمانيّ، ولا تهدف هذه المقالة إلى هدم ذلك. لكن أدّى التركيز بشكلٍ إقصائيٍّ على هذه القضايا إلى التمييز على نحو متناقض ضدّ اليهود المتحدثات/ين علناً ضدّ الصهيونيّة في ألمانيا، ممن تمّ اسكاتهن/م أو حتى تعريضهنّ/م للهجوم بإهاناتٍ معاديةٍ للساميةٍ، بل وتم وصفهنّ/م بمعاديات/ن للساميّة. علاوةً على ذلك، فإنّ الإشارة إلى معاداة الساميّة باعتبارها قضيّة مستوردة - والّتي تُنسب غالباً إلى الفئة المهاجرة المسلمة - يُلقي باللوم على الألمان غير البيض بينما يُعتِّم على استمرار معاداة الساميّة، إلى جانب مشكلة العنصريّة الأعمّ، على نطاق أوسع بين الألمان من أصلٍ أوروبيٍ.

يحتاج موضوع الاندماج في ألمانيا إلى التحليل من منظور من يتم تضمينه ومن يتمّ استبعاده من التعريفات السائدة للهويّة الوطنيّة. وينطوي التضمين على الاعتراف والإشراك في تقاسم السلطة، وحتّى في عملية تعريف الهوية الّتي هي على المحك هنا. وهذا يجعل مسألة تحديد من ينتمي ومن لا ينتمي قضيةً نسويةً تتطلَّب اهتماماً نقدياً بالهرميِّة الراسخة للسلطة. وبينما يدرك الألمان التزاماتهم التاريخية من ناحية، يبدو أن ألمانيا تنكر من ناحيةٍ أخرى التزاماتها الحاليّة محلياً وتجاه العالم، والذي يتضمن الشعب الفلسطينيّ بقدر ما يتضمن المجموعات الأخرى. ويشير هذا إلى أنّ ألمانيا لم تتعلّم بعد من ماضيها، ولم تفهم بعد عالميّة حقوق الإنسان. ربما يصحّ القول أنّ إعادة تقييم الماضي بصورةٍ شموليّةٍ لم تتم بعد.

الانسلاخ عن هويّة الغرب

إن المساعدة في الإبادة الجماعيّة جريمة ضد الإنسانية. واليوم، على الرغم من أنَّه لم يُحدَد رسمياً في المحكمة الدولية ما إذا كانت إسرائيل ترتكب إبادةً جماعيةً ضد الشعب الفلسطينيّ في غزّة (وعلى الأرجح خارجها)، فإن وجود هذه القضيّة بحدّ ذاته كفيلٍ بإثارة المخاوف. وبالفعل، فإنّ نمو مبيعات الأسلحة الألمانيّة إلى إسرائيل بمقدار عشرة أضعاف منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول هو أمرٌ "مثيرٌ للقلق للغاية"، كما تقول الأمم المتّحدة ومسؤولو "الديمقراطيات" الغربية عادةً عن أي دولةٍ في الجنوب العالمي متهمةٍ بارتكاب فظائع كالّتي رأيناها في غزّة. ولكن لا يستطيع أحد التدخّل في هذه المرحلة، بينما تُمهّد ألمانيا الطريق للتعامل مع ذنبٍ تاريخيٍّ جديدٍ في هذا القرن. هل هذا هو داعي مصلحتنا العليا الجديد، وهل يُبنى أساس هويّتنا الألمانيّة الجديدة، مرةً أخرى، على الشعور بالذنب؟

إنّ أحادية الخطاب منذ السابع من أكتوبر تؤدي إلى انسلاخ الألمان من خلفيّات مهاجرة، الجديدة والقديمة منها، عن الهويّة الوطنيّة، مما يضع القيم الّتي يُفتَرض أنّ ألمانيا تدافع عنها موضع شكٍ. وبينما تظهر الخطابات الموازية والانهيار المجتمعي والسرديات الخطيرة محلياً، فإنّها تنعكس في سياسة خارجيّة تمييزية. إنّ الهوية الألمانيّة، والّتي يشاد بها لاعترافها بالفظائع التي ارتكبتها الأمة في الحرب العالميّة الثانيّة والتعافي منها، تواجه خطر الانهيار إذا لم تدرك أنّ الدروس المستقاة لابدّ وأن تُطبَّق على المظالم المُرتَكَبة ضدّ كافّة الشعوب.

ديليك غورزيل مديرة برامج أولى في مشروع السلام والأمن في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التابع لمؤسسة فريدريش إيبرت، وتركّز بشكلٍ مكثّفٍ على النُهُج النسويّة في وظيفتها. شغلت ديليك سابقاً مناصب إنسانية متنوعة في جميع أنحاء منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وهي حاصلة على درجة الماجستير في التنمية الدوليّة من جامعة ساينس بو في باريس.

الآراء الواردة في هذا المقال لا تمثل بالضرورة وجهات نظر مؤسسة فريدريش إيبرت

Friedrich-Ebert-Stiftung

المكتب الإقليمي للجندر والنسوية

202491 1 961+
338986 1 961+
feminism.mena(at)fes.de

من نحن

الانضمام الى نشرتنا النسوية