05.05.2025

العسكرة والعنف: هل يمكن للأصوات النسويّة السودانيّة أن تنجو؟

لقد دفعت الصراعات، والعنف، والحرمان من الموارد الأساسيّة، والضغوط النفسيّة في السودان، النسويّات السودانيّات إلى إعادة تعريف أصواتهنّ النسويّة. تحاول هذه المقالة رصد تلك الخيارات، وتحليل كيف يمكن أن تؤثّر على مستقبل العدالة التحرريّة في السودان.

التفاعل بين النسويّة والعسكرة

تتعدّد وجهات النظر النسويّة حيال العسكرة. فتتساهل بعض المقاربات مع وجود مؤسّساتٍ تحتكر العنف، مثل الجيش والشرطة وغيرها. ترى هذه المقاربات أنّه من الأفضل العمل على إشراك المزيد من النساء داخل هذه البُنى، بهدف إدخال ممارساتٍ أكثر حساسيّةً جندريّاً ومتمحورة حول النساء. غالباً ما ترتبط هذه الرؤية بأجندة المرأة، السلام، والأمن (WPS) التابعة للأمم المتحدة. في المقابل، تتبنّى تيارات نسويّة أخرى مقاربة جذريّة مناهِضة للعسكرة وتحرريّة. تعتبر هذه المقاربة أنّ وجود المؤسسّة العسكريّة بحدّ ذاته يُمثّل تهديداً لحيوات النساء وازدهارهنّ. وترى أنّ المطلوب ليس إصلاح مؤسسات العنف، بل تفكيكها. تنظر بعض الأصوات النسويّة إلى استخدام العنف في سياق المقاومة المسلّحة ضدّ الظلم والهيمنة، ليس فقط كضرورةٍ، بل كفعلٍ نسويّ نبيل.

هل مواقفنا النسويّة ثابتة؟

تُخبرنا التجارب والتاريخ أنّ الإجابة هيّ لا. ففهم المبادئ النسويّة وتطبيقها في الواقع قد يتأثّران بعوامل خارجيّة وتغيّرات في السياق. ويُعدّ تصاعد الصراعات المسلّحة والحروب مثالاً واضحاً على هذا التبدّل في السياق.

عند اندلاع الحروب، يتأثّر الخطاب النسويّ بعمليّات العسكرة المجتمعيّة الأشمل. ولا تُستثنى المقاربات النسوية التحرريّة من هذه التأثيرات، لكن من الضروري النظر في كيف قد تؤثّر العسكرة على تصوّرات العدالة لدى التيّارات النسويّة ، لا سيما في ما يتعلّق بالمواقف النسويّة التحررّية.

السرديّات السياسيّة-الاجتماعيّة المُعسكَرة في السودان

بعد اندلاع الحرب في السودان في 15 نيسان/أبريل 2023 بين القوات المسلّحة السودانيّة وقوات الدعم السريع شبه العسكريّة، برز داخل المجتمع المدنيّ السودانيّ خطابٌ رافضٌ للحرب، تجلّى في وسم "لا للحرب" الذي انتشر على نطاقٍ واسعٍ على وسائل التواصل الاجتماعيّ في السودان. لم يكن هذا الخطاب السياسي مُصاغاً عن قصد ضمن إطارٍ تحرّريّ، لكنّه دعا إلى مسارٍ سياسيٍّ سلميٍّ، وركّز على استحالة تحقيق نصرٍ عسكريٍّ. وحتّى إنْ كان ذلك ممكناً، فإنّه كان سيأتي على حساب أرواح عددٍ هائلٍ من السودانيّات والسودانيّين.

حظيت محادثات السلام في جدة، الّتي أطلقتها المملكة العربيّة السعوديّة والولايات المتّحدة، بدعمٍ شعبيٍّ واسعٍ. ورغم فشلها في تحقيق وقفٍ لإطلاق النار، برزت بشكلٍ متزايد إداناتٌ ضدّ قوّات الدعم السريع. ويرجع ذلك جزئيّاً إلى الجرائم المروّعة الّتي ارتكبتها تلك القوّات ضدّ المدنيّات والمدنيّين، وتدميرها للمواقع التراثيّة والبنى التحتيّة، إضافة إلى توفّر أدلّة على ارتكابها جرائم تطهير عرقيّ وإبادة جماعيّة في مناطق مختلفة من السودان. وقدّ أدّى ذلك إلى تصاعد مواقفٍ مُعسكَرةٍ داخل المجتمع المدنيّ السودانيّ، وخصوصاً ضمن المجموعات النسويّة. لكن لا ينبغي اختزال تلك المواقف المُعسكَرة في ثنائيّة الاختيار بين دعم القوّات المسلّحة السودانيّة أو قوّات الدعم السريع.

فعلى سبيل المثال، خضعت بعض النساء في ولاياتٍ سودانيّةٍ مثل البحر الأحمر وكردفان ونهر النيل لتدريباتٍ عسكريّةٍ، تزامناً مع دعوة القوّات المسلّحة السودانيّة إلى الاستنفار الشعبيّ لكنّ الغاية الأساسيّة كانت تطوير مهارات الدفاع عن النفس. وفي ظلّ تاريخٍ طويلٍ من انتهاكات حقوق الإنسان في حَقّ المدنيّات والمدنيّين، رأت/ى الكثير من الشابّات و الشباب، الناشطات النساء والمدنيّات/ين في دارفور أنّ مواجهة قوّات الدعم السريع هي مسؤوليّة لحماية الأرض والناس، حتّى ولو كان ذلك خارج إطار القيادة الرسميّة للقوّات المسلّحة.

من جهةٍ أخرى، يواجه السكّان في السودان، في المناطق الخاضعة لسيطرة قوّات الدعم السريع، هجمات جوّيّة تنفذها القوّات المسلّحة السودانيّة،. وغالباً ما تقع هذه الهجمات في مناطقٍ مدنيّةٍ وتؤدي إلى سقوط ضحايا من المدنيّات والمدنيّين. كما اتخذت حكومة الأمر الواقع السودانيّة ، بقيادة القوّات المسلّحة، قراراتٍ مثل طرح عملاتٍ نقديّة جديدة، في محاولة لإبطال الأموال الّتي نهبتها قوّات الدعم السريع. ورغم تبرير ذلك كمحاولة لإصلاح النظام المصرفيّ، فإنّها أدّت عملياً إلى استبعاد السكّان في مناطق سيطرة قوّات الدعم السريع، نظراً لعدم قدرتهنّ/م على الوصول إلى العملة الجديدة. مرّةً أخرى، نجد بعض النساء وبعض النسويّات/ين، من مناطق و مجموعات إثنيّة معيّنة في السودان، لا يملكن/ون خياراتٍ كثيرة، ومدفوعاتٍ/ين بدوافع وجوديّة للانحياز إلى قوّات الدعم السريع.

موقف عسكريّ "ظرفيّ": هل هو مؤقّت فعلاً؟

إن الخطاب النسويّ السياسيّ المُعسكَر السائد حاليّاً - بغضّ النظر عن موقعه من طرفَيّ النزاع الأساسيّين، أيّ القوّات المسلّحة السودانيّة وقوّات الدعم السريع - سيؤثّر بلا شك في أيّ مسارٍ سياسيٍّ مستقبليٍّ، ومن المرجّح أن يستمرّ حتّى بعد انتهاء مرحلة النزاع المسلّح المباشر. ففي ظلّ هيمنة منطقٍ مبنيٍّ على العسكرة والعنف، يكاد لا يكون هناك مجالٌ للتفكير التحرّري في مفهومَيّ العدالة والعقاب. بل من المتوقًّع أن يشهد الخطاب المناهِض للعدالة التحرريّة رواجاً متزايداً، نتيجة الظروف الأمنيّة والإنسانيّة القاسية الّتي يمرّ بها السودان. ويقوم هذا الخطاب على فكرة أنّ أمن البلاد لا يمكن تحقيقه إلّا من خلال جهازٍ أمنيٍّ صارمٍ ومُحكم.

هذا ليس جديداً على السودان. فبعد توقيع اتفاق السلام الشامل في عام 2005، ازدادت قوة الأجهزة الأمنيّة، مثل جهاز الأمن والمخابرات الوطنيّ، بشكلٍ غير مسبوقٍ، تحت غطاء "الاستقرار". و يعتقدّ أنّ قوات الدعم السريع نفسها كانت من مفرزات هذا الاتفاق، إذ ظنّت السلطات أنّ تقنين ميليشيا الجنجويد وتحويلها إلى قوة شبه عسكريّة رسميّة قد يُفضي إلى ضبطها. مؤخّراً، داهمت قوى الشرطة في شرق الخرطوم مقرّات لجان المقاومة في الجريف، ودمّرت جداريات كانت تخلّد ذكرى شهداء الثورة السودانيّة عام 2018، في محاولة لقمع محاولات إحياء العمل الثوريّ ومحو ذكراه.

لا يفترض هذا أنّ النسويّات/ين في السودان غير واعياتٍ/ين بتسلسل الأحداث المتوقع. لكن الخطاب النسويّ لم يكن بالقدر الكافي من العلنيّة أو الحسم في مواجهة هذا التوجّه الشعبيّ نحو العسكرة. وعلى المستوى السطحيّ، قد يبدو الخطاب المناهِض للتحرريّة كأنّه محاولةٌ لحماية السودانيّات والسودانيّين من انعدام الأمن الناتج عن النزاع والعنف، لكنّه، في الواقع، يعزّز المنظومة العسكريّة، ويُكرّس بالتالي أنظمة قمعٍ أخرى، كالرأسماليّة الأبويّة وغيرها من البُنى السلطويّة.

ماذا نتعلّم كنسويّات/ين سودانيّات/ين؟

الحروب في جوهرها هي تجلٍّ متطرّفٌ لتهديدات البقاء، تدفع ببوصلتنا الأخلاقيّة إلى حدودها القصوى. بصفتنا نسويّاتٍ/ين سودانيّات/ين، نُقرّ باستمرارٍ بتنوّع مواقفنا السياسيّة المختلفة، والمرتبطة بالعرق والإثنيّة والطبقة الاجتماعيّة والاقتصاديّة. علاقتنا بالدولة ليست محايدةً ولا موحّدةً. ومع ذلك، نسعى باستمرارٍ إلى إيجاد أرضيّةٍ مشتركةٍ سعياً وراء إمكانيّةٍ جماعيّةٍ لواقع أفضل للشعب السوداني.

ما يجب أن نتعلمه، وربما نتذكره على نحوٍ أكثر إلحاحاً، هو أن أحلامنا النسوية تتجاوز مسألة أيّ طرف من المُتحاربين هو أكثر فظاعةً أو يتمتّع بشرعيّةٍ أكبر. لا يُمكن للعسكرة والنسويّة أن تتعايشا حقّاً عندما يتعلق الأمر بالفضول الفكريّ، والخيال، والأمل الجذريّ. لقد نجحت هذه الحرب، إلى حدٍّ ما، في عسكرة مواقفنا النسويّة - لكن يجب ألّا ندعها تسلبنا فضولنا. يجب أن نستمرّ في كوننا نسويّاتٍ/ين فضوليّاتٍ/ين.

سمر أبو شامة هي مناصرةٌ و عاملة في مجال السلام النسويّ والعدالة الانتقاليّة. تعمل كمديرة مشروعٍ في "عديلة للثقافة والفنون"، حيث تقود منصّةً وأرشيفاً يُعنيان بتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان.

الآراء الواردة في هذا المقال لا تمثل بالضرورة وجهات نظر مؤسسة فريدريش إيبرت