02.06.2025

الحبّ الذي لا تستطيع السجون احتواءه: ليلى سويف والنضال التحرّري من أجل الحياة

الحبّ الراديكاليّ لا ينتظر العدالة. هو يصنع العدالة.

ليلى سويف تُجَوّع نفسها.

ليس كمجاز، ولا كرمز — بل حرفيّاً.

الآن، وبعد مرور ٢٤٥ يوماً على إضرابها عن الطعام، بدأ جسدها ينكمش وصوتها يخفت، وحركاتها تتباطأ.

مطلبها بسيط: أن تلتزم الدولة بقانونها الخاص. أن يُطلَق سراح ابنها، علاء عبد الفتاح — الكاتب، التقني، السجين السياسيّ — لقد انتهت محكوميّته الّتي امتدّت لخمس سنواتٍ في ٢٩ أيلول/سبتمبر ٢٠٢٤. كان يجب أن يسير حرّاً خارج السجن. لكنّه حتّى الآن لم يرَ الشمس.

ما تقوم به ليلى ليس مجرّد فعل أمومة يائس — بل هو تدخّل تحرّري. كما كتبت أنجيلا ديفيس: "السجون لا تُخفي المشكلات الاجتماعيّة، بل تُخفي البشر." لكن لا بد أن يتحمّل أحدٌ ما، في مكانٍ ما، عبء هذا الإخفاء.

السجن لا ينتهي عند بواباته.

إنه يمتدّ إلى الخارج، حيث تحمله النساء — الأمّهات اللواتي ينتظرن لساعاتٍ طويلةٍ في طوابير الزيارة ليُطرَدن دون تفسير؛ الزوجات اللواتي يُجبرن على اجتياز متاهات الرشاوى والمعاملات الورقيّة والبيروقراطيّة، مساوماتٍ من أجل ذرّة كرامة؛ البنات اللواتي لا يعرفن آباءهنّ إلّا من خلال رسائل مهرّبةٍ ولمحاتٍ خاطفة.

لا يمكن أن يستمرّ النظام العقابيّ من دون هؤلاء النساء — بل إنّه يزدهر على حساب تعبهنّ، حزنهنّ، وصبرهنّ.

في مصر، التهمت غياهب منظومة صناعة السجون ما لا يقلّ عن 60 ألف معتقلة ومعتقل سياسيّ. لا توفّر الدولة لهنّ/م أدنى احتياجات البقاء — لأنّها لم تعد مضطرّةً لذلك؛ فقد أوكلت هذا العبء لنفس الأشخاص ممّن تسعى إلى كسرهنّ.

فالنساء هنّ من يجمعن المال لأتعاب المحاميات/ن، ويوصلن الطعام الّذي قد لا يصل أبداً إلى أحبائهنّ، ويوثّقن الاختفاءات الّتي ترفض السلطات الاعتراف بها.

السجن لا يحتاج إلى تقييد النساء بالأغلال لكي يجعلهنّ سجينات.

يكفي أن يأخذ أبناءهنّ، أزواجهنّ، أو إخوانهنّ.

ليلى سويف تعرف ذلك تمام المعرفة.

فرغم أنها لم تُسجَن يوماً، إلّا أنّ زوجها، صديقاتها وأصدقائها، واثنين من أبنائها الثلاثة، تمّ سجنهم. لم يمرّ عقدٌ واحدٌ من الزمن دون أن يُعتقل أحد/ى أحبّتها ظلماً.

طوال عقود، أدّت ليلى دورها المفروض — الأمّ المخلصة، المرأة الوفيّة، المُنظِّمة التي لا تكلّ.

ولكن الآن، ترفض ليلى. ترفض أن تُغذي هذا النظام بعملها. بدلًا من ذلك، تجوّعه.

لطالما كان الإضراب عن الطعام سلاحاً بيد المضطهدات/ين حين تُسلب منهنّ/م كل وسائل المقاومة الأخرى. فضّلت السلطات البريطانيّة أن تشاهد الإيرلنديّين المضربين عن الطعام يموتون في السجون على أن تعترف بإنسانيّتهم. وفي فلسطين المحتلّة، يظلّ الإضراب عن الطعام أحد الأدوات القليلة المتاحة للأسيرات والأسرى ممّن ليس لديهنّ/م موعد محاكمة، ولا حقوق قانونيّة، ولا يقينُ بأنّهنّ/م سيتحررن/ون يوماً ما. وفي غوانتانامو، ومجيدو، وأبو غريب، لم يكن الإطعام القسريّ وسيلةً للحفاظ على الحياة، بل أداةً لإبادة الإرادة.

الجوع ليس مجرّد جوع أبداً. التجويع ليس بلا أثر.

إنّه رفض المشاركة في اضطهاد النفس. إنّه تحويل الجسد إلى ساحة معركة. جسد ليلى سويف أصبح الآن موقع مقاومة.

جسدها الّذي لطالما توقّعت الدولة منه أن يصمد، أصبح سلاحاً ضدّها. فهيّ تُعرّي ما تحاول الدولة طمسه.

لكن المسألة لا تتعلّق بعلاء فقط. بل تتعلّق بمنطق الدولة العقابيّة ذاتها.

ماذا يقول هذا عن نظامٍ يسمح لأمٍ أن تموت جوعاً بدلاً من أن يطلق سراح ابنها؟

لهذا السبب، إضراب ليلى يشكّل تهديداً، لأنها لا تطالب فقط بإطلاق سراح ابنها — بل تفضح ظلم النظام الّذي سجنه في المقام الأوّل.

ليست ليلى أوّل أمّ تحارب بهذه الطريقة. أمّهات المختفيات/ين في الأرجنتين خلال "الحرب القذرة" خرجن إلى ساحة مايو، رافضات محو ذكرى أطفالهنّ. أمّهات فلسطينيّاتُ يقفن أمام سجني الاحتلال الإسرائيليّ في عوفر والنقب، يُمرّرن الطعام عبر القضبان الحديديّة، يحفظن وجوه السجّانات/ين حين يضربن/ون بناتهنّ و أبناءهنّ، ويغنين تراويد الملالاه لتمرير الرسائل.

وكما تقول روث ويلسون غيلمور: “التحرّر لا يتمحور حول الغياب، بل الحضور. إنّه بناء مؤسّساتٍ تؤكّد على الحياة. هدف التحرر هو تغيير كيفيّة تفاعلنا مع بعضنا البعض ومع الكوكب من خلال وضع الناس فوق الربح، والرفاهيّة فوق الحرب، والحياة فوق الموت."

يجبرنا إضراب ليلى على مواجهة الحقيقة: نحن أمام صناعةٍ بُنيت على منطق الموت البطيء.

في مقال كتبه علاء خلال سجنه عام 2014 بعنوان "غرافيتي لاثنين"، شاركه فيه صديقه الشاعر أحمد دومة، خلال حبسهما في سجن تورا الثاني مشدّد الحراسة، كتب علاء: "أورثتني أميّ كعكةً حجريّةً ومحبّةً تخترق الزنازين."

في عالم يقوم على السجن، والنبذ، والموت المبكر، أن تصرّ على الحبّ — حبُّ عنيد، مقاوم، ومتمرّد — هو أن تُصرّ على الحياة نفسها.

على مدار عقودها كمعارِضةٍ سياسيّةٍ وأستاذةٍ جامعيّة، أحبّت ليلى سويف مئات الشابّات والشباب، وأحبّوها. كانت تربيتها الثوريّة متجذرة في حبٍّ راديكاليّ.

والحب الراديكالي لا يساوم. إنّه لا يتوسّل. لا يسأل: كم من المعاناة يكفي؟ لأنّه يعرف الاجابة: لن يكون هناك كمٌّ كافٍ أبداً. الدولة لا تُفرج إلّا عمّن لم تعد قادرة على احتجازهنّ/م، ولا تتنازل إلّا مُكرهةً، ولا تنهار إلّا إذا أُجبِرت على ذلك.

لكن الحبّ الحقيقي... كان دائمًا يعرف كيف يكسر الأشياء.

الدولة العقابية لا تسيطر فقط على الأجساد، بل على الروابط. إنّها لا تسجن فقط، بل تعزل. تحاول تحويل الحب إلى فقدان، والوصل إلى غياب، والحضور إلى ذكرى. إنّها تعوّل على الزمن ليقوم بعمله: لينهك العائلات، ويُقلّص الاحتجاجات، ويحوّل الأسماء إلى أصداء بعيدة. إنّها تؤمن أنّه إذا احتجزت الإنسان طويلاً بما فيه الكفاية، فإنّ العالم سوف ينسى أنّه كان من المفترض أن يكون حرّاً.

لكنّ الحب الراديكالي هو ما يعيد المفقودين إلى العالم. إنّه رفض أن تحدّد السجون من يُذكر ومن يُنسى.

إنه الحبّ باعتباره عملاً تخريبيّاً.

وهذا ما يجعله خطيراً.

الحبّ الذي يطيع القانون هو ليس بخطر. الحبّ الّذي يلتزم حدود الدولة هو ليس بثورةٍ. لكنّ الحبّ الّذي يقاوم - الذي يُصرّ على ذاته في وجه القمع الذي يقول: لن أدعكم تأخذونه، الذي يقول: لن أعيش بعده، الّذي يقول: عليكم أن تقتلوني أيضاً — هذا هو الحب الذي لا تستطيع السجون احتواءه.

هذا هو الحبّ الّذي يمزّق الجدران، كما كتب علاء.

حبّ ليلى تحرّري، لأنه لا يطالب فقط بإطلاق سراح علاء، بل يطالب بعالمٍ لا تُضطرّ فيه أمُّ إلى أن تخوض هذه المعركة أصلاً.

إنه شرخٌ في جدار المنظومة.

إنّه حب المستعبدات/ين ممّن أحرقن/وا المزارع عن بكرة أبيها. حبّ المطرودات/ين من المنازل ممّن مزّقن/وا أوامر الإخلاء ورفضن/وا المغادرة. حبّ الأمهات اللواتي حملن أسماء المُعدَمين على شفاههنّ حتى أجبرن التاريخ على الإنصات.

الحبّ الراديكاليّ لا ينتظر العدالة. هو يصنع العدالة.

الدولة العقابيّة تستطيع أن تُخفي سجيناً. لكن ماذا تفعل مع أمٍّ ترفض أن يكون ابنها مخفيّاً؟

ماذا تفعل هكذا دولة أمام حبٍّ لا ينكسر، لا يبهت، لا يُطيع؟

إنها... تتصدّع.

الآراء الواردة في هذا المقال لا تمثل بالضرورة وجهات نظر مؤسسة فريدريش إيبرت