النسوية واللاسلطوية الخضراء
كثيرًا ما تهيئ لنا عقولنا مشاهد الحيوانات البريّة الراكضة بحريّة وكرامة في البريّة، في حال شاهدنا حصانًا يعاني بنقل السياح، وكثيرًا ما تسائلنا نحن أيضًا كنساء إذا ما كنا مستحقات لتلك الحياة البرية التي قد ننعم فيها بالاستقلال والحريّة دون التزامات مرهقة، ودون الحاجة للتقيد بالتقاليد الجامدة، ودون أن تحاصرنا الحداثة بمسار حياة نمطيّ يسحق أحلام النساء وتطلعاتهن.
نحلم بالحياة البرية في أوطان تفتقد للمساحات الخضراء، ليس فقط لأننا رأيناها على شاشات التلفاز والحاسوب، ولكن لأننا مثقلات حتى أقسى درجات الألم من عبء الاختيار بين دفع ثمن الاستقلال النسوي داخل مجتمعات تحارب سعينا نحو الحريّة، وما بين أن نلوذ فرارًا من شرور هذا المجتمع، إلى الإذعان والخضوع لأبوية العائلة، وسلطويّة ذكورها المباركة من الجميع.
نحلم لأن في أحلامنا بعض الحياة التي افتقدناها حين تم سؤالنا في مقابلات العمل عن موافقة الأهل، وحين تم التدخل بعد القبول في العمل في ضحكاتنا وملابسنا ومع من سنتناول قهوتنا بأوقات الراحة، حين عيَّن لنا المديرون جواسيس ليخبروهم بعدد المرات التي خرجنا فيها من السكن المخصص للعمل إلى التنزه، وحين رفضنا مؤجروا المنازل لأننا نرغب في الإقامة كنساء مستقلات بلا عائلة، نحلم بالحياة البرية في كل مرة ننزعج فيها من الضجيج والزحام والتلوث والعنف، فالحياة البرية مستدامة، تُنبت الأشجار أزهارها وثمارها دون أن تقرر إذلال النساء وابتزازهن بقبول الأبوية مقابل الإثمار.
يتوائم العيش البريّ المستقل للأفراد مع جوهر اعتقاد الفلسفة المتعالية بأن الخير متأصل في البشر والطبيعة، وبأن المجتمع ومؤسساته يفسدون نقاء الفرد، وأن أفضل حالات البشر تتحقق عندما يكونون مستقلين ومكتفين ذاتيًا.
العيش البريّ لا يعني حياة بدائية
هذا الخروج عن التغطية الحكومية بهيئة لاسلطوية (أو أناركية) خضراء والتي تسعي لإقامة مجتمع مستدام بيئيًا وعادل اجتماعياً من دون الاعتماد على سلطة الدولة أو خدماتها. تربط إل. سوزان براون الأناركية بالنسوية بقولها: «بما أن الأناركية هي فلسفة سياسية تعارض جميع علاقات القوة، فإنها بطبيعتها تمثل فلسفة نسوية«. حينما يتجرأ أحدنا على هذا الحلم المتمرد على التابوهات المجتمعية، يباغتنا النمطيون بالحديث عن الثمن الذي قد يتكلفه الإنسان في حال استغنائه عن استحقاقات الحداثة والتمدن، ورفاه الاستهلاك لمنتجات يصعب صنعها بأيادينا الحرة، لاسيما في عالم يسوده العمل التخصصي، وهذا الزعم في الواقع يسمى في المنطق «المأزق المفتعل« وهي مغالطة لإيهام الطرف الآخر بأنه لايمكن بناء الحجة إلا على افتراض خيارين لا أكثر بينما يتم تجاهل طيفية الأفكار والقيم وتقاطعاتها.
في الواقع لسنا مضطرون في العيش البري أن نتقمص دور إنسان كهفٍ بدائيّ يعيش بلا أجهزةٍ كهربائيةٍ وربما بلا ملابس، كما أن عيوننا ليست مضطرة للاختيار بين الأبيض والأسود، لأن بينهما الكثير من الألوان المبهرة التي نستطيع التمتع بها، وهذا ما نادت به الموجة النسوية الثالثة، والتي ركزت على إحلال التعدد في محل الثنائيات التراتبية، والتنوع محل الاتفاق والإبداع محل الثوابت، وهذا يبشر بإمكانية حدوث الكثير من التعاونية بين الأفراد في نظام فرداني تعاوني لاسلطوي نسوي وبيئي ومستدام ينعم فيه كل فرد -وليس كل عائلة- بالقدرة على الاكتفاء الذاتيّ من الغذاء والماء والطاقة.
الأرض تتسع لرفاه الجميع
يزعم عالم الإجتماع «إدوارد ويلسون« في كتابه «مستقبل الحياة« بأنه لا يمكن تغيير النمط الغذائي الذي يتبعه البشر بالوقت الحالي، وتبعا لذلك وضع خطته التي تحدد 10 مليار نسمة كحد أقصى من عدد السكان في العالم، غير أننا نرى بأن التخطيط الفعال يجب أن يكون ثوريًا من حيث تحدي الثقافة السائدة بل والتدخل في صناعة تلك الثقافة، ومثالاً على ذلك: من أجل خلق ثقافة غذائية تعتمد على نمط الحياة النباتي، سيستلزم ذلك ربط المصالح البشرية الفردية بهذا النمط الأخلاقي، كمنح حيازات من الأراضي للأفراد بحق الانتفاع مدى الحياة - لا بحق الملكية - تكون مساحتها كافية فقط للاكتفاء الذاتي النباتي، وهو ما يخلق لدى الأفراد ميلًا أقرب لانتهاج أنظمة نباتية تتحول فيما بعد لثقافة مجتمعية.
هذه الحيازات الخضراء إن تضمنت أشجارًا مثمرة، تبعد كل منها عن الأخرى بـ 6 أمتار، فإن مساحة 2.5 دونم من الأرض ستكفي لزراعة حوالي 50 شجرة، بالإضافة إلى العديد من الشجيرات والنباتات العشبية الصغيرة بينها، وهذا المعدل كافٍ لرفاه الإنسان النباتي واكتفاءه الذاتي، لاسيما إذا اتُّبع نمط عمارة بيئية في بناء منزل وورشة عمل، بحيث يُبنيان على طريقة «الملاجيء الأرضية« تحت الأرض أو في جوف التلال المزروعة، وبذلك لن تسرقا أرضًا من المساحة الخضراء، كما أنهما سيكونان محصنين في حال قيام حروب أو كوارث بيئية كالزلازل، وقد تطورت العمارة الجوفية بشكل كبير بحيث صار من الممكن أن يحصل الإنسان على شرفات يتخللها ضوء الشمس والهواء المتجدد دون التعدي على المسطحات الخضراء بالبناء من فوق الأرض، كما أن وجود ورشة عمل أو أكثر في داخل الأرض سينهي أيضاً الثنائية التراتبية التي تقضي بأن يعمل الأفراد في الزراعة أو الصناعة، وهو ما يتنافى مع حقيقة أن البشر قادرين على العمل في مجالات متعددة قد يخدم بعضها بعضًا، ويحفز الأفراد لخلق مجموعات من «مدن تحول« التي تنتهج «الزراعة المعمرة« لأراضٍ تخدم ذاتها بذاتها، ليتمكنوا من التفرغ للدراسة وممارسة الفنون وإقامة مشروعات صغيرة تدمج بين الهواية، وما بين الحرفة التي يختارونها.
نحن نعيش في عالم تبلغ مساحة اليابسة فيه حوالي 148 مليون كم²، وبلغ عدد سكانه حوالي 8 مليار نسمة، لو قمنا بتحويل مساحة اليابسة من كيلومترات إلى دونمات (الدونم= 1000م²)، فإن مساحة اليابسة في العالم ستكون حوالي 148 مليار دونم، وإذا قسّمنا هذا الرقم إلى حيازات للأفراد بحيث تكون كل قطعة منها على مساحة 2.5) دونم(، وافترضنا أننا سنتخلى عن نصف هذه المساحة الناتجة لإنشاء الطرق والحدائق والمحميات الطبيعية والنوادي ومراكز الخدمات المتنوعة ومحطات الفضاء وغيرها، فإنه سيصير لدينا أكثر من 29 مليار حيازة من الأرض قابلة للانتفاع الفرداني، وهو ما يزيد بكثير عن عدد سكان العالم؛ فلا يوجد إذن إشكالية متعلقة بالزيادة السكانية حتى اليوم، وإنما ترتكز معاناة الشعوب في الطريقة التي يتم بها توزيع الثروة على الأفراد؛ لاسيما ثروة «الأرض« والتي تعد في الأصل ملكًا للجميع؛ فلا ينبغي أن يحتكر امتلاكها أي مجموعة؛ فالأرض توفر رفاه البشر والحيوانات، واحتياجاتهم الأساسية من غذاء وماء ومأوى دون مقايضة بالمال أو عبودية العمل المأجور.
لا تمييز ولا أولويات
في هذا الطرح لا يوجد امتياز من الدولة على المواطن ولا من الإنسان على الطبيعة ولا من الرجل على المرأة سواءًا بالخدمات أوالإطعام أو الحماية؛ حيث تسقط القيادة الهرمية دون الصدام المعتاد بين السلطة والمقاومة، وتتبدل ثقافة العطاء من الإمداد العبوديّ بالأموال والأطعمة والملابس، إلى تمكين الأفراد للاعتماد على ذواتهم، والمساهمة بتمكين آخرين وأخريات، حيث لا أولوية لإنقاذ دب بريّ مُستغل بداخل مَحبسه في حديقة حيوان على إنقاذ امرأة من مجتمع أبوي إلى جنة العيش المستقل في البريّة.