08.09.2025

نسويّة في مواجهة التراجع: تحديّات داخليّة وحلول نسويّة

في ظل التصاعُد المتزايد للحركات المناهضة للنسويّة، تُصبح تقوية المناعة الداخلّية للحراكات النسويّة هي السبيل الوحيد لضمان الحفاظ على المكتسبات وتحقيق إنجازاتٍ جديدةٍ، غير أنّ هذا المسار لا يمكن بلوغه من دون فهم التحديّات القائمة والتعامل معها وفق مبادئ نسويّةٍ تحتفي بالتعدديّة والاختلاف.

في إحدى الجلسات العامّة حول حقوق النساء وأولوياتهنّ، بدأ أحد المدافعين عن حقوق النساء مداخلته بالقول: "المرأة عدوّ المرأة." هذا الرجل، وهو حقوقيٌّ معروفٌ في منطقته، وزوج ناشطةٍ نسويّةٍ ومديرة لمؤسسةٍ نسويّةٍ، قوبل تصريحه باستحسانٍ من عددٍ من المشاركات والمشاركين، حتّى بدا وكأنّ المقولة تحظى بقبولٍ جماعيٍّ ضمنيٍّ. 

في الواقع، تستخدم هذه المقولة كأداةٍ من أدوات الحراكات المناهضة للحقوق عموماً، وحقوق النساء والأشخاص ذوي الهويّة الجندريّة غير النمطيّة على وجه الخصوص. فهي تسعى إلى تقويض أهميّة الحراكات الجمعيّة، وتعمّم بعض الممارسات الفرديّة لتضعف الحراكات النسويّة اجتماعيّاً كما من داخلها، من خلال إغراق اللاوعي الجمعيّ بمقولاتٍ مُماثلةٍ تُسهّل الانقضاض على الحراكات النسويّة وتهميشها.

لكنّ الأمر ليس بهذه البساطة؛ فالنقد الذاتيّ يشير إلى أنّ بعض الممارسات القائمة داخل الحراكات النسويّة، أو من قِبَل بعض الناشطات، تغذّي هذه الاتهامات. وعليه، لا يمكن تجاهل هذه الإشكالات أو دحضها من دون تفكيك السياقات المعقدّة التي تؤدّي إلى صراعاتٍ وخلافاتٍ داخليّةٍ، غالباً ما تحول دون الوصول إلى مواقف مشتركة، وتضعف قدرة الحراكات على مواجهة الزخم المتصاعد للخطابات المناهضة للحقوق. 

الشعبويّة في مواجهة النخبويّة

على الرغم من أنّ الحراكات المناهضة للنسويّة لا تسعى إلى التوحُّد أو إنتاج خطابٍ موحّدٍ، إلّا أنّها تتلاقى عند أفكارٍ أساسيّةٍ محدّدةٍ وواضحة، يسهل على الشخص العاديّ استيعابها وتبنّيها. فعلى سبيل المثال، خلال حملة "حماية الأسرة" في الأردن عام 2020، والتي جاءت ردّاً على مشروع قانون "حماية الأسرة من العنف،" توحدّت التيّارات المحافظة والدينيّة والعشائريّة، رغم اختلاف خلفيّاتها الأيديولوجيّة، حول خطابٍ رافضٍ للقانون بحجّة تهديده لـ "بنية الأسرة."

وفي دولٍ مثل لبنان، الأردن، العراق، وتونس، تمّ رفض اتفاقيّة سيداو، فيما شهدت فلسطين حملاتٍ تحت شعاراتٍ مثل "سيداو تدمّر الأسرة،" "لا لسيداو، نعم للهويّة." كما تتبنّى هذه الحراكات، في دولٍ مختلفةٍ مثل مصر والمغرب وتونس، موقفاً موحّداً ضدّ التعليم الجنسيّ الشامل. وفي جميع الحالات، يتمّ اعتماد منصّات التواصل الاجتماعيّ والرموز الدينيّة كأدوات تعبئةٍ فعّالةٍ.

في المقابل، تعاني الحراكات النسويّة من حالة تشظٍّ، وانشغالٍ بالخلافات الداخليّة على حساب بناء توافقاتٍ على الاختلافات، فتثقلها النقاشات الداخليّة حول الشرعيّة والأسلوب والأولويات، كما تختلف حول قضايا مثل الحجاب، والحقوق الجنسيّة، وأولويّة القضايا الوطنيّة مقابل القضايا النسويّة. ورغم اتّساع الرقعة الجغرافيّة والاجتماعيّة للمنطقة، ما تزال معظم الحراكات النسويّة محصورةً في نطاق نخبٍ اجتماعيّةٍ واقتصاديّةٍ بمستوياتٍ تعليميّةٍ معيّنةٍ، بعيدةً عن النساء العاملات في البيوت والمزارع والمصانع. ومن دون تكاملٍ في الأدوار، وبناء حراكاتٍ متنوّعةٍ ومتوافقةٍ على مبادئ نسويّةٍ جامعةٍ، لن يكون بالإمكان مواجهة الخطاب الشعبويّ الذي يتسرّب بسهولةٍ إلى كلّ بيتٍ. 

استخدام أدواتٍ ذكوريّة في إدارة الاختلاف يضعف الحراكات النسويّة

تفرض المعايير الاجتماعيّة ومفاهيم القيادة السائدة في مجتمعٍ ما، تصوّراً نمطيّاً عن دور المرأة القياديّة، غالباً ما يتقاطع مع نموذجٍ سلطويٍّ ذكوريٍّ. وفي الكثير من الحراكات والمؤسّسات النسويّة، تميل بعض النساء إلى تبنّي هذا النموذج، كوسيلةٍ لإقناع المجتمع بدورهنّ كقائدات.  في المقابل، وبسبب الحشد النسويّ المستمرّ وازدياد الوعي بأهميّة رفض النمط السلطويّ الأبويّ، تتصاعد الأصوات الناقدة لهذا النموذج، وخاصّةً في أوساط الجيل الشابّ، وترفضه باعتباره منافياً للمبادئ النسويّة. 

إنّ غياب آليات محاسبةٍ ومساءلةٍ نسويّة قائمة على تفهّم وجهات النظر المختلفة، يُضعف إمكانيات التعامل البنّاء مع الاختلافات. فبناء أدوات مساءلةٍ نسويّةٍ فاعلةٍ يتطلّب إيماناً وقناعةً بالمبادئ النسويّة، والعمل وفقها، بما يتيح مساحةً للتنوع في الأفكار والممارسات، ويعزّز الإبداع، ويفتح الباب أمام تحالفاتٍ مع حراكاتٍ حقوقيّةٍ أخرى. تتطلب المساءلة النسويّة أيضاً وعياً بما يجلبه الاختلاف من تعزيزٍ للصورة النمطيّة حول العمل النسويّ في ذات الوقت الذي لا يتمّ فيه التساهل مع الأنماط السلطويّة أو التي تستغلّ الموقع لمصالح ذاتيّة.

في هذا السياق يمكن رصد عدّة تحدّيات تواجهها الحراكات النسوية والكويرة في سعيهن للتصدي للخطاب المناهض، من أبرزها:

أولًا: من السعي إلى خطابٍ موحّدٍ إلى احتضان التعدديّة النسويّة.

يتطلّب تجاوز أزمة الخطاب المناهض للحراكات النسوية الانتقال من السعي لإنتاج خطابٍ موحّدٍ، إلى قبول التعدديّة النسويّة وصياغة "أرضيّة نضاليّة مشتركة" تحتفي بالاختلاف بدلاً من أن تتعثّر به. فالكثير من الحراكات النسويّة في منطقتنا انبثقت عن أحزابٍ سياسيّةٍ وتياراتٍ فكريّة محددةٍ، ممّا جعلها ترتبط بأيديولوجيّات فكريّةٍ حزبيّةٍ ضيقةٍ، على حساب بناء فكرٍ وممارسةٍ نسويّةٍ مستقلّةٍ. يؤدّي الانطلاق من موقعٍ أيديولوجيّ مغلق غالباً إلى إقصاء المختلف، ويسهم في إنتاج شعورٍ بالاغتراب داخل الحراك ذاته. هذا ما يفسّر ندرة التحالفات النسويّة الإستراتيجيّة في المنطقة ومع حركاتٍ نسويّةٍ حول العالم، والتي يمكنها سويّاً أن تتصدّى للخطاب المناهض لها.

ثانياً: التنافس داخل الحراكات النسويّة

يُشكّل التنافس داخل الحراكات النسويّة تحدّياً بالغ الأثر، سواءً على مستوى التمويل، أو التمثيل، أو صنع القرار. فالخلافات الداخليّة، والتي تكون في كثيرٍ من الأحيان قاسيةً ومعقّدةً، لا تُضعف الحراكات فحسب، بل تساهم في تغذية الخطابات المناهضة لها، وتكرّس وعياً مجتمعيّاً يعيد إنتاج مقولة "المرأة عدوّ المرأة." وبذلك، وبدلاً من أن تتحوّل الحراكات النسويّة والكويريّة إلى حراكاتٍ رائدةٍ في المجتمع، يتمّ إقصاؤها وحصرها في زاوية "عدم الاتفاق" وغياب "الرؤية الجماعيّة." 

ثالثاً: حصر القضايا النسويّة وإغلاق الأفق أمام التوسّع

يكمن التحدّي في الانغلاق على مجموعةٍ محدّدةٍ من القضايا المصنَّفة مسبقاً على أنّها "نسويّة،" وترك مجالاتٍ أخرى متاحةً للحراكات المناهضة. فعلى سبيل المثال، لا يزال الحضور النسويّ ضعيفاً نسبيّاً في قضايا محوريّة مثل العدالة البيئيّة، والاقتصاد النسويّ، ومنع التسلّح، والتجارة الدوليّة، والدَين العام، والانتخابات، وغيرها الكثير من الملفات التي تُترك لتشكّل عالمنا دون أن يكون لنا فيها صوت نسويّ مسموع. ونتيجةً لهذا الغياب، تتطوّر الخطابات المناهضة للنسويّة والحقوق ضمن هذه المجالات، وتصل إلى الجمهور ناضجةً وجاهزةً للاستهلاك العام.

في محاولات للتصدّي لهذا المدّ، يتمّ أحياناً المبالغة في استخدام مفهوم "الأختيّة" ليصبح طريقةً لتحديد "من معنا" و "من ضدّنا،" ما يحوّله إلى نادٍ مغلقٍ بدلاً من أن يكون فضاءً رحباً لبناء التحالفات والتقاطعات مع حراكاتٍ أخرى، سواءً في مناطق مختلفة أو ضمن قضايا متنوّعة. إنّ الأختيّة في جوهرها، يجب أن تعبّر عن اتفاقٍ على المبادئ، لا عن علاقاتٍ ضمن حلقاتٍ مغلقةٍ. تبرز من هنا أهميّة التخلّي عن التنافسيّة وأساليب العمل الذكوريّة، وتحويل مفهوم "الأختيّة" إلى مجالٍ تضامنيٍّ واسعٍ، يتيح التخصّص في مجالاتٍ متعدّدةٍ، والتكامل بين الرؤى النسويّة، لتقديم طرحٍ بديلٍ لعالمٍ أفضل تسوده العدالة والمساواة. 

استرجاع التعدديّة النسويّة

في ظلّ تصاعد الحراكات المناهضة للنسويّة، تصبح الحاجة ملحّةً لإعادة التفكير في أساليب التنظيم النسويّ، ليس فقط لمواجهة التحديات الخارجيّة، بل أيضاً لمعالجة الانقسامات والتوترات التي تعيق الفعل الجماعيّ. فالاختلاف جزء من نسيج العمل النسويّ، لكنّ طريقة التعامل معه هي ما يحدّد القدرة على الاستمرار وبناء تحالفاتٍ أوسع. تُستدعى اليوم ممارسةٌ نسويّةٌ تحتضن التعدّد، وتنطلق من مبادئ سياسيّة واضحة، وتتجاوز النخبويّة والسلطويّة كأسلوبٍ وأداء. وفي هذا المنعطف، تبرز الحاجة إلى أشكال تنظيمٍ قادرةٍ على التوسّع والتكيّف دون التفريط بجوهرها.

الدكتورة هديل قزّاز هي نسوية فلسطينية وخبيرة رائدة في قضايا الجندر والتنمية، تتمتّع بخبرة تزيد عن ثلاثين عامًا في الشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا الوسطى وكندا. يركّز عملها على العدالة الجندرية، والديمقراطية، والحدّ من الفقر. عملت سابقًا كمحاضِرة في جامعة بيرزيت، وقادت أبحاثًا معمّقة حول تأنيث الفقر، والعنف القائم على الجندر، ومشاركة النساء في صنع القرار.

الآراء الواردة في هذا المقال لا تمثل بالضرورة وجهات نظر مؤسسة فريدريش إيبرت