13.06.2024

تسليع أجساد النساء، أداة تسويقية وخرق صارخ للعدالة الجندرية

يستكشف هذا المقال كيف يساهم توحيد اللباس الرسمي في أماكن العمل، في تسليع أجساد النساء وتكريس الأنظمة القمعية.

لطالما تربّحت الرأسمالية من تسليع أجساد النساء. فقد ساهم اقتصاد السوق، المتأثّر بالعولمة طبعًا، بتأسيس وفرض معايير جماليّة عالمية لا تراعي الخصوصيّات الثقافية والطبقيّة. تجسّد ذلك في منتجات شركات التجميل، التي عملت على تنميط معايير الجمال بادعائها امتلاك القدرة على إعادة الصبا والشباب والقوام الرشيق، لتُوجّه الاستهلاك على هذا النحو. يراهن هذا النظام على دفع أصحاب الاهتمام الأموال الطائلة للامتثال لمعايير الجمال الخيالية هذه. ومع مرور الوقت، تتحول وصفة الجمال السحرية الّتي تقدمها الشركات الرأسمالية إلى تكريسٍ لصورةٍ نمطيةٍ عن جمال المرأة، وأتعمّد التدقيق في تحليل أبعاد كلمة "امرأة" كمفردةٍ واحدةٍ. يوضح هذا الاستعمال البعد الاستعماري للنظام الرأسمالي، بسعيه بشكل متعمّد لتحديد ما هو جميل وما هو قبيح. فالقبيح عادةً ما ينسب لخصائص ثقافية غير غربية، لتكون الصورة النمطية للجمال صورةً فرديةً لامرأةٍ واحدةٍ، وهي بالتالي صورةٌ عنصريةٌ بجوهرها.

لم يكن الهدف الوحيد من تحديد معايير الجمال أن يصبح مصدر ربحٍ عبر الاستهلاك. فقد امتَدّ هذا التنميط إلى تشييء أجساد النساء في مختلف مجالات العمل، لتصبح أجساد النساء سلعةً بحد ذاتها ومصدر ربحٍ، حيث تستخدم شركات التجميل والأزياء شاباتٍ جميلاتٍ لجذب الانتباه والترويج لمنتجاتها. ويمتد الأمر كذلك إلى إعلانات التوظيف من قِبَل الشركات المختلفة، كشركات الطيران والسياحة، والتي تعلن صراحةً عَن رغبتها في تعيين موظفةٍ "حسناء المظهر"، وتضع مواصفاتٍ معينةً للزيّ وطرق التزيُّن.

التأنُّق المسيّس: المعايير الدولية لقواعد اللباس في مكان العمل

تشير منصّة "هارفارد بزنس ريفيو"، وهي منصّةٌ عالميّةٌ تابعةٌ لكليّة هارفارد للأعمال، في تعريفها لـ "قواعد اللّباس في مكان العمل" إلى أن معايير الزيّ الّتي تحدّدها الشركات لنفسها تكون مرتبطةً بطبيعة عمل كلّ شركةٍ وبكيفية مساهمة الزيّ في تقديم صورةٍ مهنيةٍ عن الشركة، كأن تشترط البنوك وغيرها من الشركات الزيّ الرسميّ لإضفاء طابع مهنيٍّ مع العملاء. غالباً ما نغفل النظر عن ماهيّة وحقيقة تلك المعايير. قد تُعتبر قواعد اللّباس في مكان العمل موضوعيّةً، بل وغير سياسيّةٍ، وُضعت من أجل تنظيم المِهن والحفاظ على احترافيّتها. ولكنّ تحديد ما هو "مهنيّ" يحدّد بطبيعة الحال ما هو "غير مهنيّ"، تعريفٌ يحمل ويحافظ على معايير عنصريّة تمييزيّة، وإقصائيّة. ما تفعله هذه القواعد ما هو إلّا الحفاظ على قوّةٍ استعماريّةٍ تُقصي الأفراد اللواتي/ الذين لا تتماثل مظاهرهنّ/م مع تصوّر الرجل الأبيض لل"احترافيِّة والمهنيّة".

بينما تحدّد هذه المعايير اللّباس الرسميّ للنساء، تحدّ بدورها من وصول العديد من الأخريات اللواتي لا تتناسب المعايير الدولية مع ثقافتهنّ وقيمهنّ. فتقوم معايير معيّنة، كاعتماد الفساتين والتنانير كلباسٍ رسميٍّ، أو حتى منع الحجاب في بعض الوظائف، بتعزيز الشرخ المجتمعيّ بين مختلف الفئات. والحلّ لهذه المعضلة لا يقع في السّيناريو المعاكس، الذي يقوم بدوره الاستغلاليّ أيضاً. فإن فرض أيّة معايير يقوم بالتالي بفرض صورة نمطيّة، عادةً ما تكون اقصائيّة لمن لا ت/يملك هذه المقوّمات. فيعمل هذا النظام الرأسماليّ، والذي يقترن بالاستغلاليّة، بشكلٍ ممنهج، على تحديد ماهيّة المهنيّة الّتي تكون على أساس مواصفاتٍ متعلّقةٍ ب"الرُقّي" و"التحضّر."

وإن خرجنا من تحت المجهر الطبقيّ، نرى أن لهذه المعايير دوراً مهماً في كلا تطبيق وتعزيز اللاعدالة الجندريّة، عبر تحديد ما هو "أخلاقيّ"، وبالتالي، تعريف ما هو "غير أخلاقي"، فتتساوى الأخلاقية مَع الاحترافية. وفي كلا الحالتين عمل مقصود لجنسنة وتشييء أجساد النساء.

التأرجح بين الموضوعيّة والذاتيّة في قواعد العمل

أفادت مضيفات وموظفات في شركات طيران عربيةٍ بأن الشركات تسلّمهنّ زيّاً موحّداً إجباريّاً وتفرض شروطاً معينةً على الموظّفات الامتثال لها، كتحديد تسريحة وطول الشعر، ولون طلاء الأظافر، ووجوب استخدام مساحيق التجميل. وعلى الرغم من كونها شركاتٍ عربيّةً، فهي تعمل بشكلٍ فعّالٍ على محو عناصر الهويّة العربيّة، كالحجاب، أو الشعر المجعّد. كما وقد تلجأ الشركة لتغيير منصب موظّفةٍ في حال ازدياد وزنها عن المعيار المحدّد، ويترتب على تلك الموظّفة العمل على إنقاص وزنها لتتمكّن من العودة للعمل في منصبها الأساسيّ.

تحرص تلك الشركات على التزام الموظّفات بالشروط المذكورة، فيتم التأكّد من مظهرهنّ قبل صعودهنّ على متن الطائرة. وفي حال عدم امتثالهنّ لتلك المعايير، تقوم الشركة المُشغلّة بفرض عقوباتٍ تصل لحدّ عدم السماح للمُخالِفات بصعود الطائرة أو حتّى اقتطاع جزءٍ من مرتباتهنّ الشهريّة كإجراءٍ جزائيٍّ. وينعكس هنا الخلل في ديناميّات القوّة بين جهة التوظيف وأصحاب الوظائف، حيث يتمّ تهديد وابتزاز أيّ خروجٍ عن القاعدة، الأمر الّذي يصعّب الحفاظ على فرص العمل الّتي هي بطبيعتها قليلةٌ أمام النساء.

ولكنّ تلك القواعد غير ثابتة، فيتمّ التلاعب بها من قِبَل إدارات الشركات حسب الحاجة والهدف الاقتصاديّ، المتمحور حول الربح. على سبيل المثال، نرى بعض شركات الطيران تسمح للمضيفات بارتداء الحجاب، كما هو الحال في الشركات المصريّة، بينما تحدّ بعض الفنادق فرص تشغيل المحجّبات بالأقسام الإداريّة فقط. بل هي لا تسمح لهنّ بالعمل ضمن إداراتٍ تتطلب التعامل مع نزلاء الفندق بشكلٍ مباشرٍ، كون ارتداء الحجاب يخرق شروط الهندام المفروضة على موظّفات تلك الأقسام.

في الأصل، إن المظهر الشخصيّ، لا بل التعامل مع الجسد ككلّ، حريّة شخصيّة تُمارس وفقاً لمتغيّرات عدّة وللمساحة التي تسمح بالتعبير. عندما يفقد الأشخاص هذه القدرة على الاختيار، يفقدن/ون استقلاليتهنّ/م. بناءً على هذا التحكّم الّذي تمارسه الرأسماليّة، فهي تتحكّم أيضاً بالحياة الشخصيّة للنساء وتفرض عليهنّ أنماط الغذاء والزيّ والمظهر. هذا بطبيعة الحال يسبب ضغوطاً ويعرّض النساء لأنواعٍ متعددةٍ من العنف، لا سيما في المجتمعات ذات البنية الذكوريّة، كحال معظم المجتمعات العربيّة، والّتي تحمّل مسؤولية التحرّش الجنسيّ والعنف ضدّ النساء لِأزيائهنّ وعدم مراعاتها لـ"ثقافة المجتمع"، فيزداد احتمال استباحة التحرّش بالموظّفات الملتزمات بالهندام المفروض من الشركات المشغّلة كونه "كاشفاً"، عوضاً عن مبادرة هذه المجتمعات بمساءلة الشركات نفسها لفرضها أزياءَ وقواعدَ غير مهنية بحقّ موظّفاتها.

يكشف هذا النظام، بفعله الاستغلالي، تواطؤ المجتمع الذكوريّ الّذي يحمّل النساء مسؤوليّة تعرضهنّ للعنف والتحرّش الجنسيّ، ويستخدم تبريراتٍ زائفةً، منها على سبيل المثال أن امرأةً تعرضت للتحرش بسبب صوتها العالي، أو سيرها ليلاً، أو حتى بسبب زيّها، ليبعد اللوم على الجاني الحقيقي، والّذي هو النظام الذكوريّ. يستفيد بعض الرجال من هذا التواطؤ كمبرّر للتحكم وفرض سيطرتهم على النساء وعلى اختياراتهنّ في الحياة، فيستعملون القوّة الممنهجة من السلطة الأبويّة لإخضاع النساء تحت السيطرة، تحت مسمّى الحماية. وبالتالي، يتمّ استباحة التحرّش بالنساء في أماكن العمل الّتي تفرض عليهنّ زيّاً معيّناً لخروج هؤلاء النساء عن الإطار الّذي رسمته لهنّ السلطة الأبويّة.

الشخصيّ السياسيّ

كحال جميع البنى الرأسماليّة، ما تهدف له تلك الشركات هو تحقيق الربح حتى وإن اقتضى التربُّح تسليع أجساد النساء اللواتي تتعرضّن لتنميطٍ وتمييزٍ وعنفٍ في سوق العمل. يتّصل بهذا التنميط تغييبٌ لكامل حقوقهنّ، إضافةً للنظر لهنّ كعمالةٍ يسهل استغلالها والمساومة على حقوقها كمبرّرٍ للتمييز ضدهنّ في الأجر، وحرمانهنّ من فرص الترقية، وتسويغ تعريضهنّ للعنف والتحرّش والاستغلال الجنسيّ.

وفي مجتمعٍ ذكوريّ، تُعتبر النساء مجرد أداة يستخدمها عناصر النظام المستفيدون من أجل إثبات سلطتهم واشباع ذكوريتهم بفرض قيود عليهنّ، ووصفهنّ بأنهنّ كائناتٌ أضعف، فيتمّ تكريس هذه الصورة بتنميط أدوار النساء وسماتهنّ الشخصيّة. هو نفسه المجتمع الذكوري الّذي يلتزم الصمت أمام تسليع أجساد النساء في سبيل زيادة مبيعاته.

وتبدأ مواجهة دورة تنميط – تسليع – استغلال بتفكيك الأطر الثقافيّة والاجتماعيّة التي تتحكم بأجساد النساء. ندين تسليع أجساد النساء، وندين إجبارهنّ على شروطٍ عنصريّةٍ داخل العمل تحدّ من استقلاليتهنّ الذاتيّة. ولكنّ المحاربة من أجل بيئة عمل شاملة وعادلة لا تتلخّص في خطاب الحريّة الشخصيّة، بل بالتنبّه لمدى تجذّر الأنظمة الرأسماليّة والذكوريّة والأبويّة في تفاصيل حياتنا الشخصيّة، فتتعاون وتتشابك لتجعل من كل ما هو شخصيّ شأناً عامّاً ذا غاية، فيُشيّء الشخصيّ، ويُسلّع، ويُستنزف. العدالة الجندريّة صراعٌ وجوديٌّ يتحدّى التركيبة البنيويّة لنظمٍ قائمةٍ على الاستغلال. هو صراعٌ يهدف نحو زعزعة أسس الأنظمة التي تتعامل مع أجساد النساء بدونيّة.

(1) 6 مقابلات مع موظفات ومضيفات في شركات طيران وسياحة

منى عزّت استشاريّة في التمكين الاقتصاديّ والاجتماعيّ والجندر في عدد من الهيئات الدوليّة ولديها العديد من المقالات والأوراق البحثيّة المنشورة على المستوى الوطنّي والعربيّ.

تم مراجعة هذا المقال من قبل أسيل فارس لتعميق تحليله النسوي.

الآراء الواردة في هذا المقال لا تمثل بالضرورة وجهات نظر مؤسسة فريدريش إيبرت

Friedrich-Ebert-Stiftung

المكتب الإقليمي للجندر والنسوية

202491 1 961+
338986 1 961+
feminism.mena(at)fes.de

من نحن

الانضمام الى نشرتنا النسوية