18.07.2024

التمويلات الدمويّة واتجاهاتها العابرة

تستكشف هذه المقالة كيف ساهم التسليع النيوليبرالي للحيض بالحفاظ على الوصمة وحس الإنزعاج، داعيةً إلى مقاربة شمولية للعدالة الحيضية. كما وتبرز هذه المقالة الحاجة الملحّة إلى وجود منتجات حيض سهلة المنال، وتنادي بإعادة تعريف التصورات المجتمعية حول تجارب الحيض، لا سيّما في خضم الأزمة الإقتصادية في لبنان.

على مدى عدّة عقود، تمّ استغلال عمليّة الحيض على مستوى العالم من قبل نظامٍ نيو ليبرالي يستفيد من تحويل الاحتياجات الأساسيّة إلى سلعةٍ. فقطاع صناعة منتجات الدورة الشهرية، والذي دعم على مدى السنوات العشر الماضية يوم النظافة الحيضيّة الّذي تنظمه المنظّمة المتحدة للماء والإصحاح والنظافة (WASH United)، ظلّ يعمل لفترةٍ طويلةٍ دون شفافيّةٍ حول مكوّنات المنتجات. فقد أظهر هذا القطاع استثماراً ضعيفاً في راحة المستخدمات/ين، بينما ساهم في تكريس وصمة العار حول الدورة الشهريّة. لفتت الصحافة النسويّة كما الناشطات/ون الانتباه إلى إخفاء دم الحيض وتجربة الحيض كَكُلٍّ في الإعلانات، حيث يستخدم سائلٌ أزرقٌ أو أرجوانيٌّ للدلالة على دم الحيض على الفوط المزخرفة، وبطلاتُ تلك الإعلانات ترتدينَ ملابس بيضاء بالكامِل، بلّ ويمارسنَ رياضاتٍ خطيرةً. ولم يقتصر الأمر على مسح دم الحيض بصريّاً؛ بل وبشكلٍ مثيرٍ للقلق، كشف فريقٌ من العلماء في عام 2023 أنّه تمّ اختبار امتصاص منتجات الحيض بمحلولٍ ملحيٍّ بدلاً من دم الحيض الفعليّ، مما يسلّط الضوء على الانفصام الكبير بين عمليّة تطوير تلك المنتجات من جهة، وصحّة وراحة الأفراد في فترة الحيض من جهةٍ أخرى.

يحمل التحريم المحيط بتجارب الحيض عواقب وخيمةً تؤدّي إلى استبعاد هذا الموضوع من النقاش العامّ والسياسيّ. تبدو آثار هذا الإسكات واضحةً بشكلٍ خاصٍّ في لبنان، حيث الأزمات المتفاقمة – بما في ذلك الانهيار الماليّ غير المسبوق – والدولة النيو ليبرالية والخدمات الاجتماعيّة المعتمدة على المنظّمات غير الحكوميّة، تعمل مَعاً على تعزيز فردنة القضايا المتعلّقة بالدورة الشهرية ونزع الطابع السياسيّ عنها.

إنّ مقاربة مشكلة فقر الدورة الشهريّة - والّذي يُفهم غالباً على أنّه مجرّد نقصٍ في الوصول إلى منتجات الدورة الشهريّة الأساسيّة - من منظور عدالةٍ حيضيّةٍ، يستدعي فهماً شاملاً يتجاوز الحلول السريعة كتوزيع الفوط الصحيّة القابلة للاستخدام لمرّةٍ واحدةٍ. يأخذ هذا المنظور عوامل مختلفةً في الاعتبار، دون تمييزٍ بسبب الوضع الاقتصاديّ للفرد، الهويّة الجندريّة، الوضع القانونيّ، الخلفيّة التعليميّة، الامتيازات، والإعاقة، بهدف الوصول إلى خياراتٍ متنوّعةٍ من المنتجات لتلبية احتياجات الجميع طوال فترة الحيض، الوصول إلى حمّاماتٍ نظيفةٍ وخاصّةٍ، الوصول إلى التعليم والبحث اللازمين لتأمين رعايةٍ صحيّةٍ حيضيّةٍ مناسبة، والوصول إلى بيئةٍ داعمةٍ حيث يمكن مناقشة الحيض دون إطلاق الأحكام. وقد تمّ عرقلة التحسن في كلّ هذه المجالات بسبب التفاوتات في التمويل المؤسسيّ للقضايا المجندرة، كالحيض.

العدالة الحيضيّة في زمن مشاريع "فقر الدورة الشهرية" الرائجة

عانى لبنان على مدار السنوات الأربع الماضية من أزمةٍ ماليّةٍ أدّت إلى تفاقمٍ كبيرٍ في المشاكل الموجودة مسبقاً، مثل الفقر المدقع، انعدام الأمن الغذائيّ، التسرّب من المدارس، فقر الدورة الشهريّة، ونقص الوصول إلى المياه. وسط هذه القضايا السائدة الأخرى، اكتسبت مشكلة فقر الدورة الشهريّة حضوراً عندما أصدرت الحكومة قائمةً بالسلع الأساسيّة المدعومة للحد من التضخم المفرط: شملت القائمة شفرات الحلاقة، لكن لم تشمل منتجات الدورة الشهريّة. أشارت الصحافة المستقلّة إلى أن المعايير الأبويّة المزدوجة والتعامي عن الاعتبارات الجندريّة قاما بتهميش من يحيض من السكان.

منذ عام 2020، ظهرت العديد من المبادرات لمعالجة فقر الدورة الشهريّة، بقيادة مجموعاتٍ مشكّلةٍ حديثاً ومنظماتٍ غير حكوميّةٍ محليّةٍ ودوليّةٍ قائمةٍ. ففي أعقاب انفجار مرفأ بيروت في 4 آب/أغسطس 2020، تكثّفت الجهود لجمع منتجات الدورة الشهريّة والتبرعات. وفي ظلّ غياب حلولٍ هيكليّةٍ للانهيار الاقتصاديّ والماليّ، تولّى قطاع المنظمات غير الحكومية دوراً أكبر، ليحلّ فعليّاً محلّ مسؤوليّة الدولة كمقدّمٍ للرعاية الاجتماعيّة، بما يتماشى مع الوضع القائم بعد الحرب، والذي يعتمد على تبنّي حلولٍ مؤقّتةٍ للمشاكل الهيكليّة. أدّى هذا التحوّل في المسؤوليّة والمساءلة من الدولة إلى المنظّمات الدوليّة والمحليّة غير الحكوميّة إلى العديد من المشاكل: انعدام الشفافيّة في تخصيص الأموال، رفع المسؤوليّة عن الدولة في توفير الاحتياجات الأساسيّة، ازدواجيّة العمل، اعتماد المنطق القائم على المشاريع، الاعتماد على المانحين الذين يتّبعون اتجاهاتهم وأجنداتهم الخاصّة، إضفاء الطابع المهنيّ على النشاط السياسيّ، مما أدى إلى نزع الطابع السياسيّ عن السرديّة والعمل، وفي هذه الحالة، استيلاء قطاع المساعدات على مفهوم خطاب العدالة الحيضيّة.

وبشكلٍ يعكس الطبيعة النيو ليبرالية المتعصّبة للدولة اللبنانيّة، يردد قطاع المنظّمات غير الحكوميّة صوراً نمطيًّة عنصريّةً وطائفيّةً وطبقيّةً في المناقشات حول فقر الدورة الشهرية، خاصّةً فيما يتعلّق بقبول منتجاتٍ حيضيًةٍ بديلة. على سبيل المثال، يتمّ تصوير اللاجئين السوريّين والفلسطينيّين في لبنان غالباً كمستفيداتٍ/ين سلبيّاتٍ/ين من المساعدات الأجنبيّة ويتم تصويرهنّ/م كأشخاص بمعتقداتٍ أكثر تحفظّاً من نظرائهنّ/م اللبنانيّات/ين.

يتكوّن سوق منتجات الدورة الشهريّة في لبنان من مؤسساتٍ اجتماعيّةٍ وشركاتٍ محليّةٍ. وبينما يسعى بعضها إلى إزالة وصمة العار عن الدورة الشهريّة بالإضافة إلى توفير منتجاتٍ بديلةٍ، يركّز البعض الآخر على جوانب المبيعات أو التوزيع فقط: فكلهم يستهدفون جماهير مختلفة، ويدخلون في شراكاتٍ أحياناً مع المنظّمات غير الحكوميّة الدوليّة والمحليّة لتوزيع منتجاتهم.

تعمل بعض المؤسسات الاجتماعيّة في لبنان مع النساء لإنتاج فوطٍ صحيّةٍ محليّاً، بهدف تعزيز الاستقلال الاقتصاديّ للنساء في مخيّمات اللجوء مع تقديم بدائل قابلةٍ لإعادة الاستخدام أيضًا. عند تقديم منتجاتهنّ/م إلى مجتمعاتٍ مختلفةٍ حول لبنان، يتضمن خطابهنّ/م جلسة توعيةٍ بشأن الدورة الشهريّة والاستقلال الاقتصاديّ للنساء اللواتي يخطنَ الفوط الصحيّة والمستخدمات/ين.

تمّ تسليط الضوء على بدائل أخرى قابلةٍ لإعادة الاستخدام، مثل أكواب الحيض الصحيّة والسراويل الداخليّة المخصّصة للدورة الشهريّة، في عامي 2019 و2022، في وقتٍ واجه فيه الكثير من السكّان في لبنان تدهور القوة الشرائّية بسبب التضخم المفرط. ومع ذلك، لم تكن هذه المنتجات متاحةً بنفس القدر للقطاعات المهمّشة في المجتمع من خلال توزيعها من قبل المنظّمات غير الحكوميّة. وبدلاً من ذلك، يتمّ بيع الأكواب والسراويل الداخليّة عبر الإنترنت، وعادةً ما يتمّ ذلك في متاجر متخصّصةٍ باهظة الثمن وصديقةٍ للبيئة في بيروت وضواحيها الشماليّة المسيحيّة. تستهدف حملات هذه المتاجر على وسائل التواصل الاجتماعي المراهقات/ين والشابّات والشباب من الطبقة المتوسّطة إلى العليا، ممّا يؤدّي إلى استبعاد جزءٍ كبيرٍ ممن يحيض من السكّان. تتّبع بعض العلامات التجارية إرشادات الإعلانات المذكورة سابقاً، مصوّرةً تجربة الحيض بنسخةٍ مجمّلةٍ.

عندما تتزامن دورات الحيض ودورات التمويل

في سياقٍ عالميّ يتحدّث عن ظاهرة الاحتباس الحراريّ وتغيّر المناخ كمسؤوليّةٍ فرديّةٍ، تتضمّن المبادئ التوجيهيّة للمشاريع التحوّل إلى سلوكيّاتٍ صديقةٍ للبيئة. ومع أنّ منتجات الدورة الشهريّة القابلة لإعادة الاستخدام تعمل على الحدّ بشكلٍ كبيرٍ من النفايات، فإنها قد تغسل اللاعدالة الاقتصاديّة غسلاً أخضراً وتثقل كاهل المجتمعات التي لديها بالفعل وصولٌ محدودٌ إلى البنية التحتيّة المعنيّة بمهمّة تقليل النفايات.

نظراً إلى أنّ جانب "الإدخال" في استخدام أكواب الحيض يثير تساؤلاتٍ حول العذريّة بشكلٍ سائدٍ في جميع أنحاء الأراضي اللبنانيّة، هناك حاجةٌ إلى عقد جلسات توعيةٍ لمعالجة المخاوف الأخلاقيّة التي تشمل جوانب "الإدخال" في استخدامها. يوجد اعتقادٌ متكرّرٌ في قطاع المساعدات بأنّ بعض المجتمعات "أكثر استعداداً" من غيرها للتعرّض لهذه المنتجات واستخدامها، مع تعليقاتٍ تعكس تحيّزاتٍ طبقيّةً وطائفيّةً وتحيّزاتٍ متعلّقةً بالجنسيّة بين بعض موظّفي المنظّمات غير الحكوميّة. غالباً ما يساوي خطاب المنظّمات غير الحكوميّة بين "النزعة المحافظة" والمجتمعات الإسلاميّة، متجاهلاً بسهولةٍ التحديات المتعلّقة بالتحفّظ المسيحيّ. ومع ذلك، فإن الأهميّة الرمزيّة للعذريّة والخرافات المرتبطة بها - والتي تكمن في جوهر المحادثات حول خيارات المنتجات المختلفة، سواءً تلك التي يمكن التخلّص منها أو القابلة لإعادة الاستخدام - تمتدّ عبر الطبقات والطوائف والوضع القانونيّ. يتطلّب التعامل مع هذا الأمر وقتاً في التخطيط لاستراتيجيّة تواصلٍ جيّدة التنظيم، ومهاراتٍ في نفي المغالطات مع الحفاظ على الثقة، والحساسيّة الاجتماعيّة والثقافيّة تجاه التزامات ومعتقدات المشاركات/ين.

على الرغم من ذلك، فإنّ تحقيق الأثر الّذي يتمّ قياسه من خلال مقاييس كميّةٍ هو غالباّ ما يقود تخطيط المشاريع في المنظّمات غير الحكوميّة: كعدد المنتجات الموزّعة، وعدد المستفيدات/ين، أو عدد جلسات التوعية الّتي تمّ تقديمها. يدفع ذلك المنظّمات إلى التركيز على منتجٍ واحدٍ، على افتراض أنّه الأنسب لمجتمعٍ ما، مع أخذ عدّة عوامل في الاعتبار، كالعمر والدين والسياق الاجتماعيّ والاقتصاديّ، لكن دون الأخذ بعين الاعتبار الاحتياجات المتنوّعة التي قد تكون موجودةً ضمن المجموعة. تهدف هذه الطريقة إلى تقليل المقاومة والحاجة إلى نفي المغالطات عند تقديم منتجاتٍ جديدةٍ. وعلى هذا النحو، يتمّ توزيع نوعٍ واحدٍ من المنتج، بدلاً من تعريض المشاركات/ين لخياراتٍ متنوّعةٍ، وبشكلٍ يفتح المجال لمحادثاتٍ حول الراحة والخيارات المحدودة المتاحة، وترك حريّة الاختيار لتقييم الأفراد المستنير وراحتهنّ/م الجسديّة واحتياجاتهنّ/م.

يسلّط هذا الوضع الضوء على القضيّة الأوسع والمتمثّلة في إمكانيّة الوصول إلى المنتجات في البلاد. بعد أربع سنواتٍ على انهيار لبنان، أصبحت السراويل المخصّصة للحيض والأكواب الصحيّة متاحةً لمن يعرف عنها، ومع ذلك لا تعتبر من قبل المنظّمات كخياراتٍ للجمهور العامّ على نطاقٍ واسعٍ. تعمل بنية التمويل على إدامة نهج "حجمٌ واحدٌ يناسب الجميع" على المستوى المجتمعيّ، مع إعطاء الأولويّة لسهولة التخطيط والتدقيق على راحة الأفراد. من سنة 2019 إلى 2021، كانت الخيارات في السوق اللبناني محدودة، حيث كانت بعض البدائل تُجلب إلى البلاد عبر حقائب السفر. ومع ذلك، منذ عام 2022، ازدهرت العلامات التجارية المحلية لمختلف المنتجات. تحت هذه التطوّرات، بقي العائق الوحيد أمام المنظمات غير الحكومية والمنظمات الدولية غير الحكومية في استخدام هذه الخيارات الآن هو هيكلية الاقتصاد للمشاريع.

خلال جلسات التوعية حول الحيض، يؤدّي استخدام نوعٍ واحدٍ من المنتجات لجميع المشاركات/ين إلى تبسيط التخطيط للمنظّمات والمانحين، لكنّه لا يوفّر للأفراد الفرصة لاستكشاف منتجاتٍ مختلفةٍ استناداً إلى تفضيلاتهنّ/م واحتياجاتهنّ/م. في هذا السياق، يتعلق الأمر بالنظر في أنّ من يحيض من الأشخاص قد يستخدمن/ون منتجاتٍ مختلفةً، بل أيضاً أن الأشخاص أنفسهنّ/م يمكنهنّ/م استخدام منتجاتٍ مخلفةٍ على مدار دورتهنّ/م الشهريّة وعلى مدار حياتهنّ/م.

الراحة تهمّ: تمهيد الطريق للعدالة الحيضيّة

إنّ إهمال الراحة الفرديّة في توزيع المنتجات الحيضيًة جليّ. يتطلّب الانتقال إلى المنتجات البديلة وقتاً كافياً للمناقشة ومعالجة الأسئلة، وإلى توفير الموارد اللازمة لدعم الروتين الجديد الّذي يتضمّن تحديّاتٍ عمليّةٍ واحتمال عدم الراحة الشخصيّة، مثل الوصول إلى المياه النظيفة والأماكن الخاصّة لتجفيف منتجات الحيض القابلة لإعادة الاستخدام.

الخيال النسويّ والوقت أساسيّان في الطريق نحو العدالة الحيضيّة: كلاهما يتطلّب استخراج أنفسنا من تسليع الاحتياجات الأساسيّة، إضافةً لجوهرة المجتمعات لاستخلاص معانٍ جديدةً من تجارب الحيض بكل تنوعها.

فانيسا زمار هي ناشطة نسوية سويسرية-لبنانية مقيمة في بيروت. شاركت في تأسيس "جيتنا"، مجموعةٌ تركز على العدالة الحيضيّة. يتجذر عملها بعمق في التضامن السياسي التقاطعي والأختية النسوية.

الآراء الواردة في هذا المقال لا تمثل بالضرورة وجهات نظر مؤسسة فريدريش إيبرت

Friedrich-Ebert-Stiftung

المكتب الإقليمي للجندر والنسوية

202491 1 961+
338986 1 961+
feminism.mena(at)fes.de

من نحن

الانضمام الى نشرتنا النسوية