24.04.2025

ما بعد قضبان السجن

غالباً ما ينظر إلى العقاب كعلاجٍ لعلل المجتمع. ومع ذلك، فإنّ تأثير العقاب لا يكون متساوياً على جميع الفئات، بل يؤثّر على بعض المجتمعات أكثر من غيرها، كما هو الحال مع مجتمع عاملات وعاملي الجنس من العابرات/ين جندريّاً، حيث يتحوّل العقاب إلى جزءٍ من الحياة اليوميّة.

من الصعب الحديث عن موضوع العقاب دون أن أتخيّل طفولتي — تلك الأوقات الّتي وبّخني فيها والداي بسبب ارتكابي لخطأٍ ما أو لعجزي عن تلبية توقّعاتهما.

تبدأ أولى تجاربنا مع العقاب داخل الأسرة؛ تلك المؤسسة الّتي تعرّفنا إلى الانضباط والسلطة والمعايير الاجتماعيّة. وقد تناول/ت باحثات/ون مثل أدريان هاو الطابع الجندريّ للعقاب، حيث تؤكّد على أنّ العائلة - الجزء الأقرب إلينا من البنية الاجتماعيّة، والّتي نولد فيها - تُعلّمنا كيف نتصّرف كنساء، وكيف نعيش ضمن الأدوار المرسومة لنا، وكيف نتماهى مع القيم والمعايير الّتي يفرضها المجتمع علينا.

غالباً ما نعتبر هذا النوع من التأديب الجندريّ مسألةً حميمةً تحدث بين الأطفال والوالدَين. ومن هذا المنظور، يُعتَبَر العقاب شكلاً من أشكال الرعاية، وليس أداةً للترهيب والانضباط وثمرةً نتاج نظامٍ فاسدٍ.

لكنّ العقاب الّذي يُمارس ضمن العائلات هو أيضاً تجلٍّ للعقاب الّذي تمارسه الدولة. هو امتدادٌ لنظامٍ أبويٍّ أوسع، يُصغَّر ومن ثمّ يُطبَّق ضمن إطار الأسرة النوويّة. وفقط من خلال تفكيك هذه البُنى والمنطقيّات العقابيّة المصغّرة يمكننا أن نفهم الكيفيّات المتعدّدة الّتي تجاوز فيها العقاب مفهوم السجن.

يُبرَّر العقاب غالباً بوصفه وسيلةً لتحقيق أربعة أهداف: القصاص (معاقبة الجناة على الأذى الّذي تسبَّبن/وا به)، والردع (منع الجرائم المستقبليّة من خلال إظهار العواقب)، وإعادة التأهيل (إصلاح الجناة لمنع ارتكاب المخالفات مجدّداً)، والعزل (إبعاد الجناة عن المجتمع لمنع المزيد من الأذى). ولَعلّ أكثر النصوص النقديّة شهرةً (أو جدلاً) حول موضوع العقاب، هو كتاب ميشيل فوكو "المراقبة والمعاقبة". وبرغم كون هذا العمل مؤثّراً بحدّ ذاته، فقد أُعيد تشكيله من خلال عدساتٍ تقاطعيّةٍ وجندريّةٍ، ممّا جعله أكثر قابليّةً للتحليل النسويّ.

تجريم وسَجن العبور الجندري

 لم يعد العقاب مجرّد زنزانةٍ مكتظّةٍ ذات أربعة جدران. لقد أصبح العقاب جزءاً من حياتنا اليوميّة ومن معاركنا المستمرّة. لم تَعُد لدينا إمكانيّة الوصول إلى أبسط حقوقنا واحتياجاتنا الأساسيّة، كالرعاية الصحيّة والتعليم وغيرها. ومع غياب أيّ دعمٍ من الدولة أو دعم منتظم، نُترك لندافع عن أنفسنا وحدنا، فنعيش في حالةٍ دائمةٍ من المواجهة أو الهروب. ويُجسَّد هذا الواقع بشكلٍ خاصٍّ في حياة العابرات/ين جندريّاً، حيث يُحرَمن/ون غالباً من السكن اللائق، والتعليم، والرعاية الصحيّة، والفرص الاقتصاديّة، والدعم الاجتماعيّ، والحماية القانونيّة. ونتيجةً لذلك، تُصبح خياراتهنّ/م محدودةً جدّاً، بحيث يُشكّل العمل الجنسيّ آليّة بقاءٍ للبعض، وتوقّعاً مجتمعيّاً من الجميع. عندما ننشغل فقط في كيفيِّة تأمين سقفٍ يحمينا، لا نجد مساحةً للأمل أو للحلم أو للتفكير بالمستقبل. حتماً لا، ونحن نعيش في ظلّ نظامٍ يقوم على استنزاف معاناتنا، ثم يُحمّلنا مسؤولية محنتنا.

أولئك ممّن ينتهي بهنّ/م المطاف إلى العمل الجنسيّ لا يتوقف نضالهنّ/م، خلافاً للاعتقادات السائدة الّتي تفترض أنّ هذا النوع من العمل يمنحهنّ/م إمكانية الوصول إلى النفوذ، خاصةً في ظل الوصمة التاريخيّة المرتبطة بالعبور الجندريّ وتقاطعه مع العمل الجنسيّ. فحتّى داخل مجتمع عاملات وعاملي الجنس، كثيراً ما يُنبذ الأشخاص العابرات/ين جندريّاً ويتمّ عزلهنَّ/م عن أيّ شبكة دعمٍ اجتماعيٍّ، مما يجعلهنَّ/م أكثر عرضةً للعنف.

يُعامَل العبور الجندريّ كجريمةٍ وكعقابٍ في آنٍ معاً داخل مجتمعاتنا الثنائية الصارمة. ولا للمرء أن يستوعب المدى الكامل لهذا الواقع، ناهيك عن إدراك مدى سوء الأمور حين ينتمي المرء إلى مجتمع تمّ تهميشه تاريخياً ومنهجيّاً. إنّ العقاب الحقيقيّ هو أن تُنتَزع امتيازاتك، وحريّتك، وحقّك في الوجود علانيّةً. إنّه شكلٌ من أشكال العقاب الّذي يتجاوز حدود السجن، ويمتدّ إلى الحياة العامّة واليوميّة في هذا العالم.

بإمكان الأشخاص العابرات/ين جندريّاً إخبارك كيف لم يعدّ هناك فارقٌ كبيرٌ بين "العالم الخارجيّ" و"الداخليّ". ففي كلا العالمين، أنت تحت مراقبةٍ مستمرّةٍ وبمواجهة هجماتٍ عنيفةٍ هدفها تأديب وجودك واجبارك على التماهي مع الجندر "المُحَدّد" لك عند الولادة. ومن خلال هذا المنطق البنيويّ تمً تشريع السجن ليكون جزءاً من منظومة العقاب المجتمعيّ الّتي تمارسها العائلة والمجتمع.

ما الهدف؟

انطلاقاً من روح الموجة النسويّة الثانيّة، أخذت بعض الناشطات/ين النضال من أجل المساواة والشمول على عاتقهنّ/م بصدقٍ، لكنّ المبادئ العقابيّة المُكتسَبة منذ الطفولة قيّدت أفق هذا النضال. فالمطالبة باحترام الجندر عند وضع شخصٍ في زنزانةٍ هي خطوة تثبيتيّة لا شك. لكن، أليس من الأجدر أن نسأل أيضاً: لماذا يتمّ سجن الشخص أساساً؟

على سبيل المثال، يمكن أن نتخيّل عاملة/عامل في الجنس عابرة/عابر جندريًا تمّ سجنها/ه بسبب "الإغواء بهدف الدعارة". في هذا السياق، قد تسعى دول "الشمال العالميّ" للضغط من أجل سجن الشخص في مؤسّسةٍ تتناسب مع الهويّة الجندريّة، ويعتبرن/وا ذلك إنجازاً يستحق الشكر. لكنّ هذه "المبادرات" سطحيّة ومغلوطة، لأنها تتجنّب طرح السؤال الجوهريّ: لماذا يتمّ سجن أيّ شخص أصلاً لمجرد استخدامه/ا جسده/ا وقدراته/ا الجنسيّة لتلبية احتياجاته/ا الاقتصاديّةٍ؟

لا يمكن الحديث عن احترام الهويّة الجندريّة في ظلّ نظامٍ لا يحترم بأكمله وجود الأفراد أساساً. فأنظمة العدالة الجنائيّة مُصمَّمة لخدمة النخب، وتستهدف بشكلٍ غير متكافئٍ الفئات المهمّشة كعاملات وعامليّ الجنس من العابرات/ين جندريّاً، وتعاقبهنّ/م لمجرّد محاولتهنّ/م البقاء على قيد الحياة.

لا يمكنك إصلاح مشكلةٍ من خلال جعلها أكثر شمولاً للفئات المهمَّشة، بل يمكنك فقط البدء بالاعتراف بفشلها من خلال فهم كيف تُشكّل بحدّ ذاتها جوهر هذا التهميش. علينا أن نُعيد التفكير في الطريقة الّتي نتناول بها قضايا العدالة الاجتماعيّة. حينها فقط، قد ندرك أن إلصاق تسميات مثل "شامل" و"تقاطعي" على أنظمة فاسدة ليس "تقدماً".

قيمُ نسويّة للبيع

في الوقت الذي تُقلّص فيه الحكومات التمويل وتهاجم القيم التقدّميّة كالشموليّة والعدالة الجندريّة، من المدهش كيف أنّ العديد من المنظّمات النسويّة في دول الشمال العالميّ تكيّفت مع هذا الواقع من خلال التماهي مع الأجندات المحافظة الصاعدة. وبتقديم النجاة ماليّاً على المبادئ، لا تكتفي هذه المنظّمات بالتفريط بقيمها، بل تخون أيضاً القضيّة الّتي تدّعي الدفاع عنها، ما يعمّق الفجوة بين الشمال والجنوب العالميَّين أكثر من أيّ وقتٍ مضى.

ورغم تنامي الخطاب المناهض للأنظمة القمعيّة على مستوى العالم، فهو غالباً ما يتمّ تهميشه أمام أصواتٍ تنتمي إلى الفضاء النيوليبراليّ في الشمال العالميّ، حيث يعامل التغيير فيها معظم الوقت على أنّه مسؤوليّة الفرد.

لكن لا يمكن خوض النضال من أجل مستقبل مناهضٍ للقمعيّة بشكلٍ معزول، فالقوّة تكمن في الجماعة، ولا شيء يُهدّد الأنظمة القمعيّة أكثر من وحدتنا. رغم أنّ جهود العدالة الاجتماعيّة قد تفرّعت أحياناً بسبب اختلاف الأجندات والرؤى، إلّا أنّ استعادة النسويّة المتجذّرة في التضامن والمقاومة والتحرّر الجماعيّ بات أمراً أكثر إلحاحاً من أيّ وقتٍ مضى. الأنظمة الّتي نواجهها تعتمد على تفتيتنا — وقوّتنا الحقيقيّة تكمن في رفضنا أن نُقسَّم.

سَمْرّ السمرة هي أخصائيّة اجتماعيّة لبنانيّة، وعالمة اجتماع وباحثة ناشئة. تحمل شهادةً جامعيّة في الخدمة الاجتماعيّة، وتتابع حالياً دراسة الماجستير في علم الاجتماع. تتركّز اهتماماتها ومجالات عملها في قضايا الصحّة والحقوق الجنسيّة والإنجابيّة، وحريّة العبور الجندريّ، وحقوق عاملات وعمّال المنازل المهاجرات/ين، والقطط.

الآراء الواردة في هذا المقال لا تمثل بالضرورة وجهات نظر مؤسسة فريدريش إيبرت