كويريّة في بيروت: مذكّراتٌ مجتزأةٌ
حول اشكاليّة الإقصاء
٣ آب/أغسطس ٢٠١٩
مضت حتّى الآن تسعة أشهرٍ منذ انتقالي إلى بيروت. لا أزال في نفس الغرفة الصغيرة الّتي استأجرتها عندما وصلت هنا لأوّل مرّةٍ. كنت أعتقد أنّها ستكون محطّةً مؤقّتةً، ولكن ها أنا ذا هنا!
لم أتمكّن من العثور على فرص عملٍ، لذلك لم أتمكّن من توفير أيّ مالٍ لهذا الشهر. كان حضور حفلة الأسبوع الماضي خطأً. كان ينبغي أن أفكّر مرّتين بشأن الملابس الّتي اخترتها – لم يكن من الممتع ركوب حافلتين مع كل تلك النظرات والمضايقات اللفظيّة. كنت أشعر بالعيون تخترق ساقيّ المكشوفتين بينما أستمرّ في شدّ قميصي لإخفاء نفسي. كانت أمي تواصل محاولة الاتصال بي، واضطررت إلى اختلاق ألف كذبةٍ لأشرح لها لماذا لم أتمكّن من الرد طوال اليوم.
كانت الحفلة غريبةً، ولم أشعر بالراحة أثناء وجودي هناك. بدا أنّ الجميع يعرفن/يعرفون بعضهنّ/بعضهم البعض وكيف يتعاملن/يتعاملون مع بعضهنّ/بعضهم – ديناميّةٌ لم أتمكن من الاندماج فيها بعد. لم أتمكّن من التحدّث مع أيّ فتاةٍ هناك، لأنّني لم أستطع أن أسترخي بعد تناول زجاجة بيرةٍ واحدة فقط. كانت زجاجة بيرةٍ واحدةٍ هي كلّ ما يمكنني تحملّ تكلفته لأنني كنت بحاجة إلى توفير ما يكفي من المال للعودة بسيارة أجرةٍ – فالحافلات تتوقّف عن العمل بعد الساعة السادسة مساءً. لم أفهم أبداً كيف يمكنني التقرّب من فتاةٍ في مثل هذه الحفلات – هل أُغازِل بما يكفي أم أنّني أتجاوز خطّاً أحمراً؟ كان الجميع كويريّاتٍ/كويريّين بطريقةٍ مربكةٍ – رائعاتٍ/ين، نحيفاتٍ/ين، ذكيّاتٍ/أذكياء، وسكراناتٍ/سكارى. وكنت أنا كما أنا – كلّ ما لم يكنّ/يكونوا عليه.
عند النظر إلى هذه المسألة في ضوء من هو مشمولٌ ومن هو مستبعدٌ ضمن هذه المساحات الكويريّة، يصبح سؤال الهويّة أقل ارتباطاً بــ"مَن". بدلاً من ذلك، يتحوّل السؤال إلى "كيف" و "لماذا"، والذي بدوره يفكك ديناميّات الانتماء والاغتراب. تصبح مثل هذه الأسئلة إشكاليّةً لأنّها تعكس هيمنةً تستمّر حتّى في الخطاب الكويريّ: الافتراض بأن بعض الهويّات هي المشكلة.
إنّ اقصاء هويّاتٍ معيّنةٍ من مساحات الانتماء هذه يعيد إنتاج الهيمنة المغايرة المعياريّة القسريّة والّتي جعلت وجود مساحاتٍ آمنةٍ للكويريّات والكويريّين ضرورةً في الأساس. لو لم يتمّ اقصاء الكويريّات والكويريّين من بقيّة المجتمع في الأصل، فلماذا إذاً الشعور بالحاجة إلى مساحات خاصة بهنّ وبهم؟ المستبعدات/ون، أو "الآخر"، يوجدن/ون فقط في سياق هويّةٍ مهيمنةٍ تحدّد "الآخر" كغريبٍ وليس كـجزءٍ من الـ"نحن".
وهكذا، يتحوّل السؤال حول اقصاء الكويريّات والكويريّين من المساحات الكويريّة إلى: كيف تصبح الكويريّة معياريّةً، وكيف يتمّ إعادة إنتاج اللامعياريّة ضمن إطارٍ معياريٍّ؟ خلال سنوات محاولتي لفهم الكويريّة في بيروت، أدركت دور الاستهلاك في تعزيز الشعور بالانتماء داخل المجموعات الكويريّة. لا يعني ذلك أنّه لا يمكن تحليل الكويريّة من منظورٍ اجتماعيٍّ-سياسيٍّ، بل يعني تحويل التحليل إلى منظورٍ اقتصاديٍّ يُوضِّح بشكلٍ أفضل التجارب الكويريّة المهمشة داخل الفضاءات الرأسماليّة لما بعد الحداثة في بيروت.
تاريخٌ (موجزٌ جدّاً) للاقتصاد الكويريّ
١٢شباط/فبراير ٢٠٢٠
خرجت اليوم مع فتاةٍ تعرّفت إليها في صفٍّ لتعلّم اللغة الفرنسيّة منذ فترةٍ مضت. كلتانا تحب كامو، مما ساعدنا على الانتقال من تبادل الابتسامات اللطيفة المُحرَجَة إلى إجراء محادثةٍ حقيقيّةٍ. كانت قادمةً إلى بيروت لبضعة أيّامٍ، وأعربت عن رغبتها في الذهاب إلى مكانٍ يمكنها فيه إمساك يد فتاةٍ دون أن ينظر أحدٌ إليها مرّتين.
إلّا أنّ الجميع نظر إليها مرّتين. كانت نور ترتدي الحجاب، ورغم أنّني لم أعتقد أن ذلك سيكون مشكلةً، إلّا أنّ حجاب نور عُومِل كشيءٍ يُخلّ بالوضع الراهن، في ما بدا أنّه مقهىً كويريّ يتحوّل إلى حانةٍ بعد الساعة الرابعة. لاحظتُ أنّ كلّ العيون عليها. حتّى عندما طلبت الشاي، قيل لها أنّ المقهى لا يقدّم المشروبات الساخنة بعد الساعة الرابعة مساءً. وعندما انتهى بها الأمر بطلب عبوة صودا، حُدِّق بها بنظرة "فقط هذا؟" – وهم يعلمن/ون جيّداً أنّها لن تطلب مشروباً كحوليّاً، لكن كان لا بدّ من إفهامنا أنهنّ/أنهم يعرفن/ون ذلك، وأنّ الأمر مزعجٌ لهنّ/م.
في المجتمعات غير الغربيّة، كانت الجنسانيّات والتعبيرات الجندريّة الكويريّة تعمل بشكلٍ مختلفٍ قبل وصول القوى الاستعماريّة. لم يكن مفهوم المثليّة الجنسيّة موجوداً؛ بل كانت هناك أشكالٌ مما يمكن تسميته، بشكلٍ أفضل، بالشبقيّة المثليّة (homoerotism)، نظراً لمحدوديّة قدرة اللغة الإنجليزية في التعبير عن أشكال العلاقات التي تبدو غريبةً عن ثقافتها. ومع ذلك، فإن تعميم الحقوق الكويريّة كجزءٍ من الإطار الدوليّ لحقوق الإنسان جاء مع فرض تصوّرات كويريّة غربيّة – مثل المثليّات، والمثليّين، وثنائيّات وثنائيي الميل الجنسيّ، وما إلى ذلك – على أشكال الهويّة الكويريّة غير الغربيّة. إنّ هذا التوحيد للفئات الجندريّة والجنسيّة عالمياً، ينكر ويزيل الأشكال الأخرى من الكويريّة التي سبقت الاستعمار الغربيّ في العديد من أنحاء العالم.
يضيّق تصنيف الهويّات الجنسانيّة نطاق الاعتراف بالهويّة الكويريّة إلى مجرد "الظهور"، مما يخلق حلقةً مفرغةً حيث تُحوَّل الثقافة الكويريّة إلى سلعةٍ، ويُضغط على الكويريّات/ين للتماشي مع ممارساتٍ استهلاكيّةٍ معيّنةٍ حتى يتمّ اعتبارهنّ/م جزءاً من تلك الثقافة. وبالتالي، يصبح كون المرء كويريّاً محدّداً من خلال وجود كلٍّ من المستهلِك والمستَهلَك —المنتجاتٌ، أنماط الحياةٍ، التجاربٌ، وغيرها. ومن خلال دورةٍ مستمرّةٍ، تحوِّل الرأسماليّة الثقافة الكويريّة إلى سلعٍ مستهلَكةٍ، كما تبيع نمط حياةٍ يتطلّب مراعاةً دائمةً، وبالتالي، استهلاكاً دائماً.
خَلَق ربط الاعتراف بالاستهلاك ثقافةً تعتمد على الصور النمطيّة للكويريّة، والتي أدّت إلى إنتاج وإعادة إنتاج الصور النمطيّة من خلال هذا الاستهلاك. على سبيل المثال، يُصوَّر الرجال الكويريون غالباً في وسائل الإعلام الجماهيريّة على أنّهم مبالغون في أناقتهم، عصريّون، ومحبون للحفلات. أصبحت هذه الصورة تحدّد سوق المثليّين، والذي أعاد إنتاج هذه الصورة من خلال الإنتاج الضخم للسلع الاستهلاكيّة الّتي تشكّل هذا النمط من الحياة، مما ينكر أنماطًا أخرى من المثليّة. هنا، يعزّز النظام الرأسماليّ و الاتجاه السائد في الثقافة الكويريّة بعضهما البعض في تآزرٍ بين الاقتصاد والثقافة. وهذا، بالطبع، ليس للإدّعاء بأنّ أهميّة الثقافة الكويريّة تكمن فقط في دورها في دورة الإنتاج والاستهلاك الرأسماليّة، بل لفهم تجليّات الرأسماليّة في المجتمعات والمجموعات.
في سياق لبنان، الصورة الكويريّة المُسلّعة والمُروّج لها، والّتي تقتصر بشكلٍ كبيرٍ على التمثيل الطبقي والثقافيّ، قد استبعدت الكويريّات/ين ممن هنّ/م أكثر تديّناً، أقلّ ثراءً، محافظاتٍ/ين، مهاجراتٍ/ين، لاجئاتٍ/ين، وجميع الطبقات الأخرى من الأشخاص ممن ينتمون إلى الكويريّة غير النمطيّة. ربما يفسّر هذا السبب لاستمرار التشكيك في ميول نور الجنسيّة في المساحات الكويريّة، لأن المرأة المحجّبة مثليّة الجنس ليست الصورة النمطيّة الّتي تتبادر إلى الذهن عند التفكير في المثليّات.
العيش على الهوامش
٢٣ حزيران/يونيو ٢٠٢٠
أعتقد أنّني بدأت أفهم خريطة بيروت (حسنًا... تقريبًا). تقع معظم المساحات الكويريّة في بيروت في الأحياء المتنوّعة (الكوزموبوليتانيّة) والمُستطبقة (gentrified)، وهي أماكن لا يمكن الوصول إليها لمن لا تـ/يستطيع تحمّل نمط حياة الطبقة الوسطى؛ فهو نمطٌ أصبح مكلفاً للغاية وبعيد المنال للكثير من الناس في أعقاب الانهيار الاقتصادي عام 2019. يضع هذا الواقع الكويريّات/ين ممن يرغبن/ون في المشاركة في مساحةٍ معيّنةٍ في موقع ضعفٍ، حيث يجدن/ون أنفسهنّ/م في مواجهة المجتمعات اللبنانيّة الخارجيّة، المغايرة جنسيّاً والّتي هي غالباً معاديةٌ للمثليّة الجنسيّة. بالطبع، لا أدخل هذه الأحياء عبر بوابّةٍ مع حارسٍ يقيّم ما إذا كنت أبدو "رائعةً" بما يكفي للدخول. لكنّ حقيقة أنّني أعاني لتحمّل تكاليف النقل للوصول إلى هذه الأماكن، بينما تبدأ أسعار الكوكتيلات الأرخص فيها من ثمانية دولاراتٍ أمريكيّةٍ، تخبرني من هو موضع ترحيبٍ ومن هو مجرد زيادةٍ عن الحاجة.
"لا يمكنك أن تكوني متأكدةً دائماً من أنّك لن تُري من قِبَل شخصٍ تعرفينه من الخارج." قال لي أحد أصدقائي هذا عندما وصلت في ذلك اليوم، لاهثةً ومنهكةً، بعد مطاردة الحافلة رقم 15. لم أكن متأكدّةً، لكنني ظننت أنني قد صادفت مالك المنزل وزوجته في الطريق. استمرّ صديقي قائلاً: "احملي دائمًا معك سترةً!" بدا وكأنّه يوبّخني قليلاً بسبب المرات العديدة الّتي كنت فيها في مثل هذا الموقف، مرتديةً ملابس جعلت كويريّتي ملحوظةً في الأماكن العامة؛ "هناك الكثير من الحدود حول كيفيّة التعبير عن نفسك، وكيف أصبح التعبير محدوداً بسبب المعايير، وكم تحتاجين لأن تكوني ذات امتياز لتعبّري عن نفسكِ بطريقةٍ غير تقليديّةٍ. أنتِ تعلمين أننا لا نملك سيارةً للذهاب إلى الحفلات. علينا أن نُقلّ إلى هناك، لذا لا يمكننا تغيير ملابسنا في السيارة – فلماذا نكلّف أنفسنا عناء ذلك من الأساس!"
يبدأ الاستبعاد من المساحات الكويريّة قبل وصولنا إلى مواقعها الفعليّة بكثير. تضعنا معايير القبول في موقف "إمّا / أو": إمّا أن نجسّد الصور النمطيّة ونعرّض سلامتنا وأمننا للخطر قبل الوصول، أو أن نخفي هويّاتنا ونتعرض لعدم القبول والاعتداءات المصغّرة داخل المساحة الكويريّة نفسها. ودائماً ما وجدت نفسي أحاول العثور على ثغرةٍ أو استراتيجيّةٍ تتيح لي الجمع بين أفضل ما في العالمَين.
في بيروت المُستطبقة، تعمل المساحات الكويريّة على تعزيز الشرخ في المدينة من خلال تأسيس مناطق معينةٍ كملاذاتٍ من الصراعات اليوميّة. تهدف هذه المساحات إلى استعراض حداثة لبنان في منطقةٍ تتميّز بمحافظتها الثقافيّة. يتمّ تصوير بيروت كمدينةٍ تقدميّةٍ، في تناقضٍ مع بقيّة العالم العربيّ، والّذي يُصوَّر على أنه مقاومٌ للتغيير. لا يعزّز هذا التصوّر الفوارق الاجتماعيّة ويزيد من حدّة الفصل الاجتماعيّ في بيروت فحسب، بل يغذّي أيضاً الخطاب الاستشراقيّ حول دونيّة الثقافة العربيّة، حيث يتم تمجيد كل ما هو غربيٌّ، بينما يُخزى ويُنبذ كل ما هو خلاف ذلك. وبهذا، تصبح هذه المساحات مبنيّةً على أساس الاقصاء؛ فهي تستبعد الكويريّات/ين "غير المرغوب فيهنّ/م" لخلق موقعٍ جذّابٍ للاستثمار من قِبَل المستثمرات/ين الأجانب.
لم تكن المساحات الكويريّة الّتي وجدّتها هنا ملاذاً من القمع المعياريّة الغيريّة كما كنت أتخيّلها، بل كانت بدلاً من ذلك منتقاةً بعنايةٍ. كانت الحريّة الّتي تخيّلتها محاطةً بتوقّعاتٍ حول كيفيّة تقديم نفسي، ومن أُصادق، وأين أنتمي. الحريّة الكويريّة في بيروت موجودّةٌ، لكنّها تتطلّب رأس مالٍ، سواءً كان اجتماعيّاً أو ماليّاً.
بعد كلّ هذه السنوات، أدركت أن عدم كوني كويريّةً في المنزل كان أسهل من كوني كويريّةً في بيروت.