13.08.2024

هل جميع النساء عاملات جنسٍ؟

تبحث هذه المقالة في الطرق التي يتم من خلالها تقييم والتحكم في جنسانية النساء داخل النظام الاجتماعي والاقتصادي المهيمن، مستكشفةً ديناميكيات القوة التي تواجهها النساء في علاقاتهن الرومانسية والجنسية.

لم يكن الصبية يحبونني كثيراً قبل أن أبلغ السادسة عشرة – كان لديّ حاجبان متّصلان وساقان مُشعرتان. ولكن بمجرّد أن بلغت السادسة عشرة، تغيّرت الأمور بالنسبة لي؛ سمحت لي أمّي بتشذيب حاجبيّ، واستخدام الكُحل (في بعض الأحيان)، وإزالة شعر ساقَيّ بالشمع. دخلت "مرحلة الجمال" وبدأت فصلاً كاملاً من الجاذبيّة. بدأ الصبية يُعجبون بي، وبطبيعة الحال، كنت أبادلهم الشعور.

أن يُعجب بي ولدٌ بشكلٍ رومانسيٍّ جعلني أشعر بشكلٍ مختلفٍ تجاه نفسي؛ شعرت أنّي ذات قيمةٍ. لا يعني ذلك أنّني لم أشعر بالقيمة لأسبابٍ أخرى – فقد كنت رياضيّةً جيّدةً وكنت حتّى مشهورةً نوعاً ما في المدرسة. لكنّ هذه القيمة كانت مختلفةً. في حوالي سنّ السابعة عشرة، أذكر أنّني كنت مستلقيةً في السرير، وعيناي مفتوحتان على مصراعيهما، وأفكر: هل أنا معجبةٌ "حقًا “بهذا الصبيّ؟ أم أنّني فقط أحبّ أن أكون محطّ إعجاب؟

كنت أدرك أنّ العديد من الفتيات والنساء يتساءلن عمّا يدفعهنّ نحو علاقةٍ رومانسيّةٍ. لذا لم يبدُ هذا السؤال غير عاديٍّ بالنسبة لي في ذلك الوقت. ولكن، وبعد قضاء سنواتٍ في "سوق" العلاقات، اكتسب هذا السؤال نفسُه أهميّةً متجددةً. أصبحت الآن أقدّر بشكلٍ أكبر فكرة أنّ الجاذبيّة هي شكلٌ من أشكال "القيمة"، ليس بمعنى الشعور بالاعتراف والتقدير اجتماعيّاً فقط، ولكن أيضاً بالمعنى الاقتصاديّ للكلمة.

عندما أنظر إلى الماضي، لا أجد أنّني استمتعت كثيراً حينها بأن أكون محطّ إعجابٍ (أو ملاحقةً من المعجبين) بشكلٍ رومانسيٍّ. ومع ذلك، كانت تلك وسيلتي للحصول على نوع القوّة الّتي تهمّ في مجتمعنا. لذا، ها أنا ذا أكتب مقالاً، آملةً أن أفهم الطرق الّتي يتمّ من خلالها تقييم جنسانيّة النساء (وجنسانيّتي) والتحكم بها ضمن النظام الاجتماعيّ والاقتصاديّ الّذي يُحدّد العالم الذي نعيش فيه.

في نظريّة الاقتصاد الجنسيّ

في عشرينيّاتي، كانت تفاعلاتي مع الرجال الّذين كنت أُغازلهم تبدو دائماً كتعاملاتٍ تجاريّةٍ. بدا لي وكأنّ هؤلاء الرجال يسعون باستمرارٍ للحصول على شيءٍ منّي، وسرعان ما أصبح جليّاً أن هذا "الشيء" هو الجنس في الغالب. ولكن ما لم أدركه في ذلك الوقت هو أنّني كنت أيضاً مفاوضةً فاعلةً في هذا التبادل، حيث كنت أحاول - غالباً بشكلٍ غير واعٍ - تحديد "أفضل طريقةٍ" لتقديم الجنس. لم أكن متأكّدةً ماذا كان مكسبي من ذلك (لم يكن المتعة الجنسيّة)، ولكنّني بالتأكيد كنت أشارك في اللعبة.

لذا، يمكنك فقط تخيّل مدى انبهاري عندما صادفت نظريّة الاقتصاد الجنسيّ ، والّتي تقترح أنّه يمكن اعتبار عالم المغازلة والإغواء، في سياق العلاقات الغيريّة، سوقاً يستند إلى مبادئ اقتصاديّة مألوفة مثل العرض والطلب. وفقاً لنظريّة الاقتصاد الجنسيّ، تضع المفاوضات الجنسيّة النساء في دور التاجرة الّتي تتاجر بالجنس (أو الوصول الجنسيّ الحصريّ) مقابل "السلع والخدمات" التي يقدّمها الرجال، وهي: الحبّ، الالتزام، الحماية، الاهتمام، المزايا الماديّة، الفرص، إلخ…

تدّعي نظريّة الإقتصاد الجنسيّ بجرأةٍ أنّ الجنس هو سلعةٌ تسيطر عليها النساء، وذلك استناداً إلى الاعتقاد بأنّ الدوافع الجنسيّة عندهنّ أضعف منها عند الرجل، مما يمنح النساء السيطرة على توفير الجنس. وبعباراتٍ أبسط، تُجادل النظريّة بأنّ النساء يمتلكن القوّة في العلاقات الجنسيّة مع الرجال فقط لأنهنّ أقلّ انسياقاً وراء رغباتهنّ الجنسيّة. يا لها من طريقة لإفساد حجّةٍ مثيرةٍ للاهتمام…

لقد انتقدت النسويّات نظريّة الاقتصاد الجنسيّ لأسبابٍ وجيهةٍ عدّةٍ. أولاً، تعزّز النظريّة الأدوار الجندريّة التقليديّة والقوالب النمطيّة من خلال تصوير الرجال كمطاردين نشطين للجنس، والنساء كحارساتٍ متحكّماتٍ غير فاعلاتٍ وذوات رغباتٍ جنسيّةٍ منخفضةٍ. هذه النظرة الثنائيّة متجذّرةٌ في الأصوليّة الجنسيّة (sexual essentialism)، والّتي تعامل السلوكيّات الجنسيّة والتفضيلات والهويّات على أنها محدّدةٌ بيولوجيّاً. ومع ذلك، فإنّ بناء نظريّةٍ عن الجنسانيّة على أساسٍ بيولوجيٍّ هو أمرٌ مغلوطٌ بشكلٍ أساسيٍّ، لأنّ الجنسانيّة تختلف بشكلٍ كبيرٍ من شخصٍ لآخر وتتأثّر بشدّةٍ بالمعايير الاجتماعيّة والممارسات الثقافيّة. كما أشارت روبين، "الجنسانيّة منتجٌ بشريٌّ مثلها مثل الحميات الغذائيّة، ووسائل النقل، وقواعد آداب السلوك، وأشكال العمل، وأنواع الترفيه، وعمليّات الإنتاج، وأساليب القمع."

تجادل النسويّات أيضاً بأنّ نظريّة الاقتصاد الجنسيّ لا تتناول بشكلٍ كافٍ ديناميّات القوّة الّتي تشكّل العلاقات الجنسيّة. ترى النظريّة أن التبادل الجنسيّ يحدث في سوقٍ عادلةٍ ومفتوحةٍ، لكنّ هذا السوق ليس عادلاً ولا مفتوحاً – فهو مُعقّد ومُقيّد. يؤثّر اختلال موازين القوى والمتجذّر في النظام الأبوي والبنى الاجتماعيّة الأخرى، بالإضافة إلى الرأسماليّة، بشكلٍ كبيرٍ على التفاعلات الجنسيّة. من خلال الاعتماد على الاستعارات الاقتصاديّة، تتجاهل النظريّة كيف أنّ أشكالاً أخرى من القوّة والإكراه، بما في ذلك تلك المستمدّة من السياقات الدينيّة والثقافيّة والتشريعيّة، تؤثّر أيضاً في الموافقة والرغبة والاستقلالية ضمن إطار الجنس.

حول الذكاء الجنسيّ

تقدّم نظريّة الاقتصاد الجنسيّ فكرة التعامل مع الجنس كتبادلٍ في سوق، ممّا يمكن أن يقدّم رؤىً قيّمةً. ولكنّها بعد ذلك تُسند شروط هذه العمليّة التبادليّة إلى مفاهيمٍ أصوليّةٍ جنسيّةٍ بيولوجيّةٍ للمتعة الجنسيّة، وهو ما يثير الجدل. وبصرف النظر عن الأصوليّة الجنسيّة الّتي تطرحها نظريّة الاقتصاد الجنسيّ، تظل نموذجاً قيّماً لدراسة تجربة الجنس ضمن نظام القيم الثقافيّة لدينا.

حتّى والدتي استوعبت - إلى حدٍّ ما - بعض المبادئ السائدة في نظريّة الاقتصاد الجنسيّ. كانت نصيحتُها لي في أوائل العشرينات من عمري أن أكون "ذكيّةً" بشأن جنسانيّتي ونشاطي الجنسيّ. لم تكن تشير إلى استخدام وسائل الحماية، بل إلى عدم "استهلاك" الجنس بكثرةٍ. من الجدير بالذكر أنّ والدتي كانت تعرف أنّني لم أكن عذراء، لذا لم تكن تتحدث عن الحفاظ على عذريّتي لأعلى مُزايدٍ – وهو موضوعٌ آخرٌ متعلّقٌ بالجنس، يوفّر فيه المنظور الاقتصاديّ رؤىً مفيدةً. ومع ذلك، وبالرغم من درايتها بأنّني نشطةٌ جنسيّاً، كانت لا تزال تريد منّي أن "أكون ذكيّةً" بشأن كيفيّة استهلاكي للجنس، في سبيل الحفاظ على قيمتي.

أبديت استهجاني لنصيحتها، ولكنّ كلماتها أثّرت فيّ على أيّ حالٍ. لقد التقيت بالكثير من النساء اللواتي يسألن أنفسهنّ - كما فعلت في صغري - أو يسألن بعضهنّ البعض "كم عدد الرجال الذين مارست معهم الجنس؟" ويقسن قيمتهنّ بناءً على ذلك. نجد أنفسنا نتساءل "هل خمسة عشر عددٌ كبيرٌ جدّاً؟" "ماذا عن عشرةٍ إذاً؟" نلجأ حتّى إلى وضع تلك الأرقام في سياقٍ زمنيٍّ لجعلها تبدو أكثر قبولاً: "ماذا لو كانوا خمسةً على مدى ثلاث سنواتٍ؟ هذا مقبولٌ، أليس كذلك؟" تهدف كلّ هذه الحسابات والتبريرات المحتملة إلى طمأنة أنفسنا بأنّنا لا نزال نحتفظ بقيمتنا: "لم أستنفد كلّ شيءٍ – هناك شيءٌ لا زلت أستطيع تقديمه للعالم، وهناك رجلٌ ما سيودّ الحصول عليه."

حول وهم الحريّة الجنسيّة

يُدعِّم منطق والدتي من كلٌّ من علماء النفس، والمجلّات الصحيّة، وأفلام هوليوود، والدراسات الّتي أجرتها مواقع المواعدة، والّتي تناقش الحدّ أو "الرقم السحريّ" الّذي تنخفض بشكلٍ كبيرٍ بعده احتماليّة أن تجد المرأة رجلاً يرغب في الزواج منها. تتضمّن العديد من المنتديات الإلكترونيّة أسئلةً مثل "هل يمكنكَ أن تحبّ فتاةً كان لديها الكثير من الشركاء الجنسيّين؟" حيث تكون "لا" هي إجابة أغلب الرجال. وفي المقابل، فإن سلاسل المواضيع حيث يتناقش الناس تحت عنوان "أنا أكذب بشأن عدد شريكاتي/شركائي الجنسيّات/ين" شائعةَ أيضاً، فيميل الرجال عادةً إلى تضخيم أرقامهم ليظهروا أكثر خبرةَ، وتحاول النساء تقليل أرقامهنّ لتجنّب الحكم عليهنّ.

لقد روّجت الأيديولوجيات النيوليبراليّة لوهم الحريّة من خلال منح النساء خيار انتقاء شركائهنّ (الجنسيّين). ومع ذلك، تأتي هذه الحريّة الظاهريّة مع شروطٍ مسبقةٍ. لا تزال جنسانيّة النساء تخضع لتنظيمٍ ومراقبةٍ شديدين، حيث يتمّ تحديد قيمتهنّ بناءً على مدى نشاطهنّ الجنسيّ. غالباً ما يتمّ الحكم على تاريخ النساء الجنسيّ، وتُحسب قيمتهنّ في "سوق الالتزام" بناءً على مقدار رأس المال الجنسيّ الذي أضعنه.

يستمرّ هذا النظام بالتحكّم في أجساد النساء بينما يتظاهر بالتحرّر ومنح حريّة الاختيار لهنّ. في الواقع، تُجبر النساء على تحويل جنسانيتهنّ إلى سلعةٍ وحساب معدّل استهلاكها، ليصبحن فعليّاً "عاملات جنسٍ" في سوقٍ اقتصاديٍّ أبويٍّ يقيّمهنّ أساساً من منظور تبادلاتٍ جنسيّةٍ. هنا، يُشير مصطلح "عاملات الجنس" ليس إلى النساء اللواتي يعملن في مجال الترفيه الجنسيّ، بل إلى جميع النساء اللواتي يجب عليهنّ استخدام أجسادهنّ كنوعٍ من رأس المال لتقديم منتجٍ مطلوبٍ بكثرةٍ – ألا وهو الجنس – والذي يُنظَّم بشكلٍ صارمٍ ويُخضَع للتقييم الأخلاقيّ.

في النظام الاقتصاديّ الأبويّ، والّذي يقدّم الأسرة النوويّة كأولويةٍ ويعتمد بشكلٍ كبيرٍ على عمل النساء غير المدفوع، خاصّةً بعد الزواج، تُبنى قيمة المرأة الاقتصاديّة لتصل إلى ذروتها في السنوات القليلة الّتي تسبق الزواج. خلال هذه الفترة، تعمل المرأة ضمن قوانين صارمةٍ لبيع أثمن ما لديها والتفاوض عليه – وهو الحقّ الحصريّ في العلاقة الجنسيّة - قبل إتمام عقد الزواج. بمجرّد إتمام تلك الصفقة النهائيّة والزواج، تُخرج المرأة من السوق، وغالباً ما يُفرض عليها القيام بأعمال الرعاية غير مدفوعة الأجر خلف أبوابٍ مغلقةٍ.

حول التحرّر الجنسيّ كمشروعٍ جماعيٍّ

هناك أبحاثٌ كثيرةٌ تقيّم جنسانيّة النساء كنوعٍ من الأصول، كوسيلةٍ لقياس إمكاناتهنّ الجنسيّة ضمن سياقاتٍ اجتماعيّةٍ وسياسيّةٍ واقتصاديّةٍ مختلفة. وقد بحثَت مؤلّفاتٌ ومؤلّفون مثل غودسي، وروبين، وفوكو، ولورد، وبيني وغيرهنّ/م في هذا الارتباط وحاولن/وا فهمه.

على مدى آلاف السنين، تمّ التلاعب بالجنس من خلال الأجندات السياسيّة الّتي تهدف إلى التحكّم في من يمكنها/ه ممارسته، ومتى يُعتبر مناسباً، ومدى تكراره، والدوافع وراءه، وكيفيّة التعامل مع نتائجه. الجنسانيّة مسألةٌ سياسيّةٌ عميقةٌ، وكما هو الحال في جميع القضايا السياسيّة، غالباً ما تحتلّ النساء موقعاً مستضعَفاً. وبينما قد يكون الضغط للحفاظ على العذريّة قد تراجع في العديد من السياقات، لا تزال النساء يُقيّمن ويُحكم عليهنّ بناءً على كيفيّة تداوُلهنّ للجنس.

لا أزعم، بكتابة هذا المقال، أنّني أعرف ما قد يدفع الناس لممارسة الجنس في ظلّ نظامٍ اجتماعيٍّ واقتصاديٍّ مثاليٍّ، أو إن كان هناك سببٌ واضحٌ واحدٌ أساساً. ومع ذلك، أشعر بالقلق من أنّ الجنس لا يزال يُعتبر موضوعاً محظوراً بشدّةٍ، وكغيره من المحرّمات (كالمخدّرات والقمار)، فإن هذا الحظر يعمّق المشكلات القائمة في السوق بالفعل. تدفع المحرّمات بالتبادلات إلى الخفاء، ممّا يخلق أسواقاً سوداء تواجه التاجرات والتجّار فيه ضغوط العرض والطلب، فضلاً عن عقوباتٍ قاسيّةٍ. يؤدّي هذا إلى صدامٍ بين الأنظمة الاقتصاديّة والأخلاقيّة، ممّا يزيد من عيوب سوقٍ إشكاليٍّ أساساً.

إنّ فهم هذه الديناميّات ومعالجتها هو أمرٌ حاسمٌ للمضيّ نحو مجتمعٍ أكثر عدالةً جندريّاً. فقط من خلال فهم الكيفيّة الّتي يتمّ من خلالها تسليع وتنظيم جنسانيّة النساء يمكننا كشف الصلة العميقة بين العدالة الجندريّة والعدالة الاقتصاديّة، واتخاذ الخطوات الأولى نحو تفكيك البنى الّتي تكرّس اللامساواة.

سامنتا إيليا تعمل كمديرة برنامج في المكتب الإقليمي لمؤسسة فريدريش إيبرت حول النسوية السياسية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. تشمل مجالات تركيزها عمل الرعاية، حقوق العاملات المنزليّات المهاجرات، البناء الاجتماعي للجنسانيّة، وإدماج المنهجيات النسوية ومناهضة الاستعمار في برامج التنمية.

الآراء الواردة في هذا المقال لا تمثل بالضرورة وجهات نظر مؤسسة فريدريش إيبرت

Friedrich-Ebert-Stiftung

المكتب الإقليمي للجندر والنسوية

202491 1 961+
338986 1 961+
feminism.mena(at)fes.de

من نحن

الانضمام الى نشرتنا النسوية