21.05.2025

التحرّر المتجذّر في الموروث: العدالة الأمازيغيّة كنموذج لمنطقة شمال أفريقيا بلا سجون


تُقدّم العدالة الأمازيغيّة بديلاً تصالحيّاً للأنظمة العقابيّة الاستعماريّة في شمال أفريقيا. يُركّز هذا النهج التقليديّ على تعافي المجتمع والمصالحة ومعالجة الجذور العميقة للمشكلات من خلال نظام "أزريف"، بدلاً من العقاب والسجن.

قبل وجود الأمم المتحدّة والناشطات والناشطين في مجال حقوق الإنسان، كان لأسلافنا طرقهنّ/م الخاصّة للحفاظ على العدالة والوحدة الاجتماعيّة. بالنسبة للمجتمعات الأمازيغيّة في شمال أفريقيا، لم تكن العدالة قائمةً على العقاب، بل على الإصلاح. فعندما كانت تنشأ النزاعات — سواءً كانت سرقةً، أو خلافاتٍ شخصيّةً، أو تجاوزاتٍ أخرى — كانت كبيرات وكبار السنّ، إلى جانب أفراد المجتمع، يجتمعن/ون تحت ظلّ شجرةٍ عتيقةٍ أو في مجلس جماعيّ للتشاور والتداول. وبدلاً من عزل المُخطئة أو المُخطئ أو معاقبتهما بالسجن، كان هناك سعيٌ إلى إصلاح الضرر الحاصل. فالسارقة أو السارق، على سبيل المثال، لم يكنّ يتمّ إقصاؤهما أو سجنهما، بل كان يُطلب منهما إعادة ما أُخذ، وتعويض من تضرَّر، والقيام بأعمال خدميّة لاستعادة الثقة الّتي فُقدت. وقد ضمن هذا النهج تحقيق المساءلة مع الحفاظ على التماسك الاجتماعيّ.

يتناقض هذا تماماً مع أنظمة السجون القائمة حاليّاً في مختلف أنحاء شمال أفريقيا، والّتي عُرفت بوحشيّتها، واكتظاظها، وقمعها الممنهج. فبدلاً من أن تكون مؤسساتٍ لإعادة التأهيل، تعمل السجون كأدواتٍ للسيطرة السياسيّة، تُـ/يُعاقَب فيها المعارضات/ون، وتُـ/يُجبر المحتجزات/ون فيها على العيش في ظروفٍ لا إنسانيّة. تشير تقاريرٌ عديدةٌ إلى الانتشار الواسع لممارسات التعذيب، والحرمان، وسلب الحريّة، ما حوّل هذه المؤسّسات إلى رموزٍ للسيطرة السلطويّة، بدلاً من أن تكون مراكزاً للعدالة، بما يعزّز سلطة الدولة عبر القمع. إنّ النظام العقابيّ الحديث، القائم على الانتقام والعزل، لا يفشل فقط في الحدّ من الجريمة، بلّ يساهم أيضاً في إعادة إنتاج حلقاتٍ من العنف والتهميش.

يُشكّل مفهوم "أزرف" الأمازيغيّ بديلاً مثيراً للاهتمام. فهذا المفهوم، والّذي يتقاطع في جذوره مع فكرة "العدالة التصالحية" في السياق الغربيّ، يُولّي أهميّة أكبر للتقارب والحفاظ على مصلحة الجماعة، بدلاً من التركيز على العقاب. ويقوم على معالجة الأذى اللاحق بالضحيّة والمجتمع ككلّ، من خلال حلّ النزاعات بشكلٍ جماعيٍّ. تُسهم هذه المقاربة في إدماج من المجرمات/ين بدلاً من تهميشهنّ/م، وتعززّ المُساءلة. لطالما عزّز نظام "أزرف" قيم العدالة، والتناسب، والتماسك الاجتماعيّ، كبدائلٍ للنهج العقابيّ الّذي فُرض من قِبَل الأنظمة الاستعماريّة وبعد الاستعماريّة.

الاستعمار وبداية نشوء نظام السجون

بدأ ترسُّخ نظام السجون الحديث في شمال أفريقيا مع الاستعمار الأوروبيّ في أوائل القرن العشرين. خضعت المنطقة لسيطرة فرنسا وإسبانيا وإيطاليا، حيث فرضت كلٌّ منها مؤسّساتٍ سياسيّةً جعلت القمع أولويّةً تتقدّم على العدالة. ففي المغرب، أسّست الحماية الفرنسيّة، والّتي بدأت عام 1912، نظاماً بوليسيّاً بقيادة المقيم العام ليوطي. وقد أُوكلت إلى القيادات المحلية، المعروفين باسم "القايد"، مهمّة القضاء على المعارضة، بما في ذلك سجن أو اغتيال منتقدات/ين السلطة الاستعماريّة. وقدّ عُرفت السجون آنذاك بسوء معاملة المعتقلات/ين السياسيّات/ين وظروفها القاسية.

وبالمثل، أصبح سجن سركاجي، الّذي أُنشئ في الجزائر عام 1846، رمزاً لكلا الطغيان الاستعماريّ وطغيان ما بعد الاستقلال. فقد بُني لاستيعاب 3,000 محتجزةٍ ومحتجز، لكنّه كان يضمّ غالباً ضعف هذا العدد، وكانت ممارسات التعذيب إلى جانب ظروف الاكتظاظ أموراً متكرّرة. واكتسب السجن سمعةً سيّئةً كمركز احتجازٍ لمُناضلات ومُناضليّ الثورة بين عامَي 1954 و1962، حين استُخدمت فيه أساليب التعذيب المنهجيّ لأول مرّة. وقد لقي العديد من مُقاتلات ومُقاتلي الحريّة من الشعب الجزائريّ حتفهنّ/م في غرفة الإعدام سيئة الصيت داخل هذا السجن. لم يُمثّل سركاجي قطيعةً مع الممارسات الاستعماريّة، بلّ كان رمزاً لاستمرار القمع بعد الاستقلال، إذ واصلت الحكومات الجزائريّة المتعاقبة استخدامه. لطالما ارتبط اسم سركاجي بالاكتظاظ الشديد، ورداءة المرافق الصحيّة، وسوء معاملة السجينات والسجناء، وحرمانهنّ/م من الحقوق الأساسيّة — ممّا يجسّد كيف أنّ البُنى الاستعماريّة العقابيّة قد تمّ تبنّيها وتوسيعها في شمال أفريقيا بعد الاستعمار، لا سيما في وظيفتها كوسيلة تحكّمٍ مجتمعيّ وقمعٍ سياسيٍّ.

في ليبيا، استخدمت ديكتاتوريّة القذّافي أساليب تُذكّر باستراتيجيّات الاستعمار الإيطاليّ لقمع المعارضة في سجونٍ مثل غريان والهضبة. وقد بلغ هذا العنف المتجذّر في تلك الأنظمة ذروته في مجزرة سجن أبو سليم عام 1996، الّتي قُتِل فيها أكثر من ألف شخصٍ.

استناداً إلى الإرث الاستعماريّ، احتفظت العديد من حكومات شمال أفريقيا بعد الاستقلال بأنظمة السجون الوحشيّة الّتي أنشأها الاستعمار الأوروبيّ، بلّ وسّعت نطاقها، مستخدمةً إياها لإسكات المعارضة وبثّ الخوف. فعلى سبيل المثال، في سجن تازمامارت في المغرب، تعرّضت السجينات السياسيّات والسجناء السياسيّون لسنواتٍ من العزل، وسوء التغذيّة، والتعذيب، وغالباً من دون محاكمة. وفي الجزائر، وثّقت منظمات حقوق الإنسان اعتقال ناشطاتٍ وناشطين بطرقٍ تعسفيّةٍ، مؤكدةً استخدام السجن كسلاحٍ سياسيّ بدلاً من كونه وسيلةً لتحقيق العدالة. هذه البُنى تفشل في معالجة الأسباب الجذريّة للجريمة — مثل الفقر، وانعدام المساواة، وغياب الفرص — وتعاقب الأفراد على ظروفهنّ/م الحياتيّة بدلاً من التعامل مع المشكلات البنيويّة. وقدّ أدّى ذلك إلى دوّامة قمعٍ وعنفٍ تُضعف التماسك الاجتماعيّ وتُقوّض الثقة في مؤسّسات الدولة.

العدالة الأمازيغيّة: بديلٌ اصلاحيّ

يُقدّم الإرث القانونيّ الأمازيغيّ، والّذي يمتدّ لأكثر من ألف عام، بديلاً عميقاً للأنظمة العقابيّة الّتي فرضتها الأنظمة الاستعماريّة والحديثة. فهذا التقليد، المتجذّر في مبادئ التضامن والعدالة التصالحيّة، لا يزال مُعتمَداً في المجتمعاتالأمازيغيّة (البربر) في شمال أفريقيا، ولا سيما في مناطق من المغرب، والجزائر، وليبيا. يشكّل نظام "أزريف" جوهر هذا التقليد، وهو منظومةٌ عريقةٌ من الأعراف والقرارات المنقولة شفهيّاً عبر الأجيال. يرتكز هذا النظام على المساءلة، والوساطة، وجبر الضرر، ويُعطي الأولويّة للتعافي على حساب العقوبة، ساعياً إلى استعادة التوازن داخل المجتمع بدلاً من عزل الجناة. يأخذ النظام في الحسبان تاريخ الأطراف المعنيّة، ونوع الضرر الّذي ألحقه كلّ طرفٍ بالآخر. وبرغم محاولات الاستعمار طمس هذه التقاليد، لا تزال العديد من المجتمعات الأمازيغيّة تعتمد آليات العدالة التقليديّة، سواءً إلى جانب الأنظمة القانونيّة الرسميّة أو بدلاً عنها — ما يدلّ على الأهميّة الدائمة لهذه الممارسات وفعاليّتها. ويقدّم هذا الإرث العريق دروساً بالغة الأهميّة للحركات الساعية إلى إلغاء نظام السجون، إذ يُظهر طرقاً بديلةً لمعالجة الأذى والخلاف داخل المجتمعات من دون اللجوء إلى الحلول العقابيّة.

فعلى سبيل المثال، في حالات النزاع حول الأراضي أو الموارد، كان يُطلب من الطرف المُخطئ أن يُعوِّض الطرف المتضرّر من خلال تقديم المواشي أو المحاصيل، بهدف استعادة الطرف المتضرّر ما فُقد والحفاظ على التوازن الاجتماعيّ. أمّا في الحالات الّتي تتضمّن عنفاً أشدّ، مثل الاعتداء، فقد تشمل التعويضات تقديم خدماتٍ للمجتمع أو اللجوء إلى وساطة القيادات الحكيمة من كبيرات وكبار السن، من أجل إعادة التوازن ومنع تكرار النزاع. ويأخذ النظام في الاعتبار الظروف الفرديّة، مثل العمر ومستوى المسؤوليّة، لضمان معاملة القاصرات والقُصَّر بعدالةٍ، وبما يتناسب مع أعمارهنّ/م وخبراتهنّ/م. وقد لعب علماء القانون، والمعروفون بالفقهاء، دوراً محوريّاً في تفسير هذه المبادئ وتطبيقها، بما يضمن انسجام العدالة مع العُرف المحليّ والقيم المجتمعيّة.

يُجسّد نظام "أزريف" إيماناً عميقاً بأنّ العدالة يجب أن تجبُر الضرر وتعزّز الانسجام المجتمعي، وهي فلسفةٌ لا تزال تحمل أهميّةً كبيرةً حتى يومنا هذا. يتعارض هذا النهج مع منطق أنظمة السجون الحديثة، والّتي غالباً ما تُجرِّد السجينات والسجناء من إنسانيتهنّ/م، وتُضعف صلاتهنّ/م بالعالم الخارجيّ. فمن خلال التركيز على التعافي بدلاً من الانتقام، يُعزّز النموذج الأمازيغيّ الانسجام المجتمعيّ، ويعالج الأسباب الجذريّة للنزاع. عادةً ما تترأّس القيادات المجتمعيّة، من كبيرات وكبار السن، مجالس تُعرض فيها كلّ المظالم، ليس فقط لضمان تطبيق العدالة بل أيضاً لفهم مضمونها من قِبل الجسم الاجتماعيّ بأكمله. يُعيد هذا الثقة بالمؤسّسات، ويُصلح العلاقات، ويمنع النزاعات المستقبليّة من خلال ترسيخ الشعور بالمسؤوليّة المتبادلة والاحترام المتبادل داخل المجتمع. إنّه نظامٌ يقوم على احترام كلّ شخصٍ للآخر، وعلى فكرة أنّ العدالة يجب أن توحّد المجتمعات لا أن تفرّقها.

نحو مستقبلٍ بلا سجون

تتأثّر الأنظمة القانونيّة في شمال أفريقيا بإرث الاستعمار بعمقٍ، والّذي لا يزال يُنتج دوّاماتٍ من العنف والقمع. ومع ذلك، يُقدّم الإرث القانونيّ الأمازيغيّ مستقبلاً بديلاً يُعاد فيه بناء المجتمعات، وتصبح فيه العدالة التصالحيّة، ولا يُنظر فيه للسجون على أنّها ضروريّةً.

ولمواجهة الأسباب الجذريّة للجريمة، كالفقر وانعدام المساواة، لا بدّ لمقاربة النهج التحويلي للعدالة أن تعطي الأولويّة لحلولٍ مجتمعيّةٍ تُعالج المشكلات البنيويّة من جذورها. ويشمل ذلك الاستثمار في الخدمات الاجتماعيّة والتعليم، والرعاية الصحيّة، والتدريب المهنيّ، لدعم المجتمعات المُهمّشة بالتوازي مع تعزيز التنميّة الاقتصاديّة من أجل خلق الفرص وتقليص الشعور باليأس. ولا تقلّ مسألة بناء الثقة من خلال ممارسات الشرطة المجتمعيّة والعدالة التصالحيّة أهميّة عن ذلك، وهي الّتي تُركّز على التعاون والمساءلة بدلاً من العقاب. كما يُعَدّ تفكيك مركزيّة السلطة، وضمان الشفافيّة، ودمج القيم الأمازيغيّة المتمثّلة في الحريّة والعدالة، من العوامل الأساسيّة لتحقيق عدالةٍ دائمةٍ، واستقرار، وصمودٍ مجتمعيٍّ، بالتوازي مع معالجة الجريمة من جذورها.

تُذكّرنا التقاليد الأمازيغيّة بأنّ العدالة لا تقوم على العقوبة بل على التعافي، ولا على العزلة بل على إعادة الوصل. ومن خلال تبنّي هذه المبادئ، يُمكن لشمال أفريقيا أن تتجه نحو مستقبلٍ تُصبح فيه السجون من مخلّفات الماضي، وتُصبح فيه العدالة تصالحيّةً بالفعل.

زينب عينوني ناشطة شغوفة تعمل في مجال العدالة الاجتماعيّة وحقوق الإنسان في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. يتركّز عملها حول حقوق الشعوب الأصليّة، وبشكلٍ خاص نضالات وصمود المجتمعات الأمازيغيّة، إلى جانب تقاطع العدالة البيئيّة مع المساواة الجندريّة. ومن خلال أبحاثها، وكتابتها، ونشاطها في المناصرة، تسعى زينب إلى إيصال أصوات مُهمّشة، ومواجهة الظلم البنيويّ، والمساهمة في إحداث تغييرات تحويليّة.

الآراء الواردة في هذا المقال لا تمثل بالضرورة وجهات نظر مؤسسة فريدريش إيبرت