15.05.2025

النظام العقابيّ: منظومة "عدالة" في خدمة اللّاعدالة

يعكس النظام العقابيّ تصوّراً للعدالة بوجهٍ واحد، حيث تُجرَّم الفئات الأكثر تهميشاً من أجل الحفاظ على النظام المهيمِن. في الجزائر وغيرها، يساهم سَجن النساء في ترسيخ كلٍّ من النظام الأبويّ وإرث الاستعمار. هناك حاجةٌ ملحّةٌ لإعادة التفكير في مفهوم العدالة – من خلال التساؤل من يسجن من؟ ومن خلال الدفع نحو بدائل تحويليّة وجذريّة

السجن: شكلٌ مألوفٌ من أشكال السيطرة على النساء

منذ صغري، تعلّمت الخوف من السلطة. في المنزل، كانت والدتي تهدّدني بأنّها ستُبلِغ والدي عن كلّ شيء. وفي الشارع، كان والدي يشير إلى أيّ شرطيٍّ ويقول محذّراً: "تصرَّفي جيّداً، وإلا سأخبره! “لم يكن أيٌّ منهما يعتبر نفسه مصدراً للسلطة، بل كانا ينظران إلى مصادر أخرى أعلى في سُلّم الهيمنة، أكثر رسوخاً ولا يمكن التشكيك فيها.

باستخدام الخوف كأداة، كان الجميع يحاولن/ون السيطرة عليّ. رسّخت والدتي المُطيعة في داخلي قناعةً بأنّ الكلمة الأخيرة هي دوماً للرجال. أمّا والدي، كونه مدركاً لحدود سلطته، فلجأ للاعتماد على سلطة الشرطة. وهكذا، استمرّت سلسلة القمع وتكرّست، بفعل التهديد المستمر بسلطةٍ أعلى.

لاحقًا، ومع تقدّمي في العمر ونضوجي كنسويّة، أدركتُ أنّ القيد لا يبدأ في لحظة السجن، بل يسبقها بكثير؛ في منازلنا، ومدارسنا، وفي شوارعنا. فمنذ طفولتهنّ، تتعرّض النساء لأشكالٍ متعددة من السيطرة، من خلال حرمانهنّ من الوصول إلى الفضاء العام ومن أبسط الحقوق.

في سياق أبويّ، يكون "السجّان" الأول هو الرجل صاحب السلطة، الّذي يفرض سيطرته باسم النظام العائليّ أو الأخلاقيّ. وفي النظام القضائيّ، يُطبَّق منطق السيطرة نفسه من قبل الدولة والسلطات الّتي تحافظ على الوضع القائم. هاتان المنظومتان – العائلة والسجن – تشتركان في الهدف نفسه: التأديب، الإخضاع، والعقاب.

تماماً كما هو الحال في الاستعمار، يُستخدم نظام السجون كأداةٍ للهيمنة تستهدف بشكلٍ أساسيٍّ الفئات الأكثر تعرّضاً للاضطهاد أساساً.

الاستعمار في الجزائر: دليلٌ صارخٌ على ظلم النظام العقابيّ

من يسجن من؟ وباسم أيّ عدالة؟



لا نجد مثالًا أوضح على ذلك من تاريخ الجزائر. فخلال حرب التحرير، اعتُقل مئات المجاهدات/ين - مقاتلي الحريّة كما تَمّ سجنهنّ/م، وتعذيبهنّ/م، وصدر بحقهنّ/ م أحكامٌ بالإعدام من قِبل منظومة "العدالة" الاستعماريّة الفرنسيّة، الّتي صنّفت أفعال المقاومة على أنها إرهاب. لقد حُوكمن/وا وعوقبن/وا كمجرمات/ين من قِبل نظامٍ رفض الاعتراف بنضالهنّ/م السياسيّ. تعرّضت جميلة بوحيرد، و زهرة ظريف، و لويزة إغيل أحريز لقمعٍ وحشيٍّ، وكنّ مثالاً على المصير الّذي ينتظر كلّ النساء اللواتي تجرّأن على مقاومة الاستعمار.

كانت جميلة بوباشا ضحيّة اغتصابٍ جماعيٍّ وتعذيبٍ من قِبَل القوّات الاستعماريّة الفرنسيّة. وبفضل جيزيل حليمي وسيمون دو بوفوار، أصبحت قضيتها معروفةً للرأي العام، ممّا فضح استخدام العنف الجنسيّ كسلاحٍ للاعتقال والسيطرة الاستعمارية. تُظهر قصتها إلى أيّ مدى تتحوّل أجساد النساء الأسيرات إلى ميادين حرب تُمارس وتتقاطع فيها أشكال متعدّدة من القمع.

ومع ذلك، بعد الاستقلال عام 1962، تحوّلت هؤلاء النساء أنفسهنّ إلى بطلات وطنيّات. من حُكم عليهنّ بالأمس القريب كمجرمات، أصبحن فجأة رموزاً مُمجّدةً. يكشف هذا الانقلاب حقيقةً أساسيّةً: العدالة ليست محايدةً ولا شاملةً، بل هي بناءٌ سياسيٌّ وإيديولوجيّ يخدم السلطة المهيمنة. لكن لا يعني هذا بالضرورة أنّ النظام المستقّل حديثاً سيمنع سَجن النساء أو معاقبتهنّ. ففي الجزائر، كما الحال في أماكن أخرى، لا تزال النساء تُسجَنّ، لكن هذه المرّة باسم نظام "وطنيّ". من الضروري أن نطرح السؤال: لماذا لا يزال نظام من المفترض أن يكون حرّاً ومُحرّراً، يكرّس منطق السيطرة والظلم؟

يكمن الجواب في تحليل أنظمة الهيمنة الأخرى المتداخلة مع إرث الاستعمار، مثل النظام الأبويّ، والرأسماليّة، أو عنصريّة الدولة. لقد تناولت مفكّرات مثل أنجيلا ديفيس و بيل هوكس كيف تتداخل التمييزيات العرقيّة والطبقيّة والجندريّة ضمن منظومات قمعٍ أوسع. في إيران، على سبيل المثال، يُستخدم مفهوم العدالة كأداةٍ للسيطرة على أجساد النساء وقمع المقاومة. لا يمكننا القبول ببساطة بالحجّة القائلة أنّ السجن مشروع لأنّه يعاقب على الجريمة. علينا أن نغوص أعمق، ونسأل: من يحدّد ما هو جُرم وما هو غير ذلك؟ من يقرّر من تُـ/يُعاقَب، وبأيّ نظام؟ ولماذا تُفلت الهيمنة القائمة على الاستغلال، والتمييز الطبقيّ، والجنسيّ، والعنصريّ من أيّ عقاب، في حين تُجرَّم السرقة؟

في مجتمعٍ غير متكافئٍ، تستهدف السجون الفئات الأكثر هشاشة، وتُكرّس أشكال السيطرة الأبويّة والاجتماعيّة، بالإضافة إلى الهيمنة الاقتصاديّة-الاجتماعيّة والاستعماريّة. بل إنّها تسجن حتّى النساء اللواتي يتجرّأن على الدفاع عن أنفسهنّ في وجه الاعتداءات.

من بين الفئات الأكثر تهميشا، تُعدّ النساء السجينات في الجزائر (يشكّلن 1.7% من عدد الأشخاص في السجون ) من الأكثر هشاشةً وعرضةً لإعادة التوقيف. محروماتٍ من رأس المال الاقتصاديّ والاجتماعيّ، يُواجهن نظاماً قضائيّاً يدّعي أنّه يسعى إلى إصلاحهنّ، لكنّه في الواقع لا يفعل سوى معاقبتهنّ. كما توضّح أنجيلا ديفيس في كتابها "هل السجون بالية؟"، فإنّ السجون الحديثة تُعيد إنتاج أنظمة العبوديّة والاستعمار، من خلال معاقبة المهمَّشات والمهمّشين لحماية أصحاب السلطة.

من أجل عدالة تحويليّة وجماعيّة

نحن بأمسّ الحاجة إلى إعادة التفكير في سُبُل سعينا لتحقيق العدالة، خارج حدود العقاب وحده. وهذا لا يعني تجاهل الجرائم أو إلغاء المسؤوليّة، لكن علينا أن نفهم السبب الّذي يجعل بعض الفئات تُجرَّم بشكل ممنهج، بينما تفلت فئاتٌ أخرى من العقاب. علينا أن نطرح مساراً يقوم على العدالة التحويليّة، يستند إلى الاعتراف بالمسؤوليّة الجماعيّة، وضمان الوصول إلى الحقوق الأساسيّة، ومُساءلة أوجه عدم المساواة الممنهجة.

توضّح أنجيلا ديفيس أنّ السجن لا يحلّ العنف، بل يُعيد إنتاجه. أما أنا، فأؤمن بأنّ العدالة النسويّة ضد-الاستعماريّة يجب أن تعترف بأنّ معظم الإدانات الجنائيّة ما هي إلا نتاج نظامٍ يتجاهل "الجرائم البنيويّة" الأخرى: الفقر، والإقصاء، وغياب الحماية الاجتماعيّة. بدلاً من حبس الفئات الأكثر هشاشة وتهميشاً، علينا معالجة جذور الظلم.

لا أسعى إلى تثبيط ضحايا العنف عن تقديم الشكاوى، حتّى في ظل نظامٍ لا يقدّم بديلاً، ولا إلى التقليل من خطورة الجرائم المرتكَبة بحقهنّ/م. إنّما هدفي هو تسليط الضوء على من يتحمّلن/ون المسؤوليّة الفعليّة عن المظالم الاجتماعيّة، وفضح نظامٍ يُبقينا في خضوعٍ لهيمنةٍ مستمرّة، تحت وهم عدالةٍ لا يمكن بلوغها.

فالعدالة الحقيقيّة لا يمكن أن تتحقّق إلّا بقطع الصلة مع المنطق الموروث من القمع الاستعماري، والهيمنة الذكوريّة، والسيطرة الأبويّة، والاستغلال الرأسماليّ. ما دامت السجون أداةً للتأديب وشرعنة سطوة الدولة، فستواصل إعادة إنتاج هذه المنظومات القمعيّة. علينا أن نتخيّل بدائل جماعيّة، حيث تكون للعدالة القائمة على جبر الضرر والتحوّل أولويّةٌ على العقاب — حيث تصبح حماية النساء قبل أن يُقتلن أولويّةً للمرة الأولى، بدلاً من المناظرة حول عقوبة الإعدام الّتي لم تُرجع يوماً ضحيّة واحدة من ضحايا قتل النساء.

أمل حجّاج هي نسويّة تقاطعيّة ضد-استعماريّة، ومؤسِّسة "الجريدة النسويّة الجزائريّة" حيث تعمل على إنتاج محتوى وبرامج توعويّة. منذ عام 2017 تعمل كمستشارة ومحاضِرة في قضايا الجندر والنسويّة. وهي أيضاً مدوِّنة تساهم بمقالاتٍ في عدد من المنصّات الإعلاميّة الجزائريّة والمتوسّطيّة.

الآراء الواردة في هذا المقال لا تمثل بالضرورة وجهات نظر مؤسسة فريدريش إيبرت