09.05.2022

حول الحراك النسوي الشاب والتمويل

خلخلة مفاهيم المجتمع وعاداته التي تشرع العنف ضد النساء، وتروّج له وتتستر عليه هو خطوة من خطوات كثيرة في نضالنا نحو تحقيق العدالة الاجتماعية للجميع، نساءً ورجالاً. وسواء كانت المطالب بوضع حدّ للعنف ضد النساء وتجريم العادات والمعتقدات التي تبيحه وتشرعنه قادمة من الداخل أم من الخارج، فهي على أي حال تصب في مصلحة النساء. لكن الحقوق والكرامة ليست أشجاراً لتزرع في أرض واحدة فقط، ولا تمتلكها مجموعة من الناس دون أخرى. أذكر شاباً قال علناً في مدينة في الضفة الغربية: "أنتم جئتم تقولون إن الدفاع عن الشرف ضد حقوق الإنسان، لكن أليس لي "الحق" في الدفاع عن شرفي؟ ألا تضمن ثقافتي ذلك وتوافق عليه؟ وإن كان الدفاع عن الشرف مقبولاً في ثقافتي فمن أنتن لتقلن ما أستطيع أو لا أستطيع فعله؟" هذه الذكورية الفجة القاتلة تعادي النسوية بجميع تجلياتها وجميع منابتها، لكنني أتساءل: لماذا يعتقد بعض النسويات والنسويين أننا يجب أن نسلك مساراً " محلياً" للدفاع عن النساء وحقوقهن كي لا نظهر بصفة " الخارجي"، وكأن محلية المطالب النسوية هي الضمانة لقبولها في المجتمع الأبوي؟ وقد نجد من يقول: لا نريد حقوق إنسان "غربية" لا تناسب بيئتنا؛ هذا جدال قديم ولا ينبغي أن تكون استراتيجيتنا كنساء دفاعية تبريرية مبنية على توقعنا لرد الفعل.

هل رفض التمويل كافٍ كمكوّن لهوية الحراك في فلسطين؟

كان من المثير للاهتمام الاستماع الى الشابات في حركة نسوية فلسطينية ناشئة احتلت الشوارع من حيفا الى رام الله اعتراضاً على جرائم قتل النساء وتنديداً بها. هنّ يرفضن بشكل قاطع التمويل الأجنبي أو حتى التعاون مع مؤسسات دولية معروفة. وهذا الرفض بحد ذاته هو تعبيرٌ عن قوة تؤكد أنها قادرة على الاستمرار والتأثير من خلال الاعتماد على نفسها فقط. وأثناء تواصلي مع الحركة، قالت لي ممثلة عن هذا الحراك : نحن لا نتفق مع أجندة المؤسسات الدولية ولا مع توجهاتها ولا مع طرق عملها. وهذه الحركة أيضاً لا تريد أن تمأسس أو تؤطر نفسها في قالب جمعية أو منظمة لتحافظ على شكلها الحالي كحراك طوعي مؤلف من نساء شابات وبعض الرجال. حراكهنّ هو ضد العنف الذي تتعرض له النساء وهدفهنّ وضع قضايا المرأة في صلب الخطاب التحرري الفلسطيني؛ هذه هي استراتيجية هذا الحراك وخطابه.

كُتب الكثير عن التمويل في السياق الفلسطيني. وقد تكون الشابات في هذا الحراك الفلسطيني تعلّمن من عقود طويلة من الدعم الموجه أن للمموّل مطالب وأجندات معينة، لا تشبه ربما من حيث الأولوية ما تراه النساء الفلسطينيات أولوية. فلسطين سياق يحارب كولونيالية نشطة، بشبه دولة ضعيفة ومجتمع قوي، ويُعتبر التمويل ركيزة اقتصادية أساسية بالنسبة للفلسطينيين. تقول سهام رشيد، وهي ناشطة نسوية فلسطينية منذ أكثر من ثلاثين سنة، إن إحدى الإشكاليات الرئيسية في الحركة النسوية الفلسطينية هي تشتتها وافتقارها لأجندة وطنية موحدة، إضافة الى إشكاليات أخرى تتعلق ببنية وهيكلية هذه التحركات وعدم شموليتها خاصة لجهة الأجيال الشابة والرجال. "هذه حركة جديدة بشروط جديدة!" تضيف رشيد وهي تسترجع كيف تغير شكل الحراك النسوي الفلسطيني في العقود الأخيرة خاصة بعدما تحول حراك النساء الفلسطينيات ضمن السياق التحرري الفلسطيني الى منظمات ومؤسسات مجتمع مدني ذات مرجعية طبقية وإيديولوجية بعيدة في أغلب الأوقات عن النزاعات والمشاكل اليومية التي تعاني منها النساء الفلسطينيات. 

هذا الدرس تعلمته المنخرطات في الحركات النسوية الشابة، ومفاده أن تأطير حراكها مؤسساتياً يحول الحراك الى بيروقراطية، وان اهتمام الممولين بفلسطين يأتي من اعتبارات مرتبطة بأجندات هذه الدول وتصورهم للدعم سياسي وليست بأي حال من الأحوال مرتبطة بأولويات النساء الفلسطينيات. قد تتقاطع ربما شروط هذا التمويل مع احتياجات حقيقية وملحة للنساء الفلسطينيات، لكن من يضع هذه الأولويات؟ ومن يسمع صوت حراك النساء الفلسطينيات ويحوله الى أجندة حقيقية؟ وهل هذا هو المسار الصحيح أصلاً في سياق يحارب كولونيالية نشطة ومشروع كومبرادوري؟ في الواقع، إن الحراك النسوي الشاب يعترضه العديد من العقبات قبل تحقيق أهدافه أهمها استحداث حاضنة ومرجعية شعبية ترى في هذا الحراك النسوي حقاً وشرعية أم أنه، وعلى الرغم من مقاومة الشابات والشباب لفكرة التمويل الخارجي، ستبقى الافكار التحررية التي ينادوا بها "أجنبية" وغريبة؟ 

لم تستطع النسويات الفلسطينيات، في خضم الحراك الشعبي الفلسطيني، اختراق الذكورية المهيمنة على حركة التحرر الفلسطيني، فكيف ستتمكّن شابات فلسطينيات من كافة السياقات السياسية والاجتماعية في فلسطين إحداث ومراكمة أثر كاف للتغيير؟ هل يكفي عدم حصول الحراك النسوي على تمويل ليعطيه زخماً؟ إن آلاف الرجال لا بل وحتى النساء الغاضبين من اتفاقية سيداو والذين انطلقوا في مظاهرات ضخمة في مدينة كالخليل في الضفة الغربية لن يهمّهم منشأ الحركة النسوية أو محليتها، فالمناداة بحقوق المرأة لدى هذه الفئات يُعتبر تحدياً للعرف والثقافة المهيمنة. 

ضرورة دعم الحركة النسوية في العراق

السياق العراقي مختلف عن السياق الفلسطيني فيما يتعلق بالتمويل وسياساته. فعلى عكس فلسطين، كانت العراق دولة مركزية قوية تم تقويضها منذ نهاية التسعينيات مروراً بالغزو الأميركي في عام 2003. وتقول الباحثة زهرة علي إن الحراك العراقي الشاب يتناول مواضيع الحرية، والبناء المجتمعي والمعايير الاجتماعية خاصة تلك المرتبطة بالجندر، وهذا الحراك يتحدى الطائفية العشائرية والمحافظة في المجتمع العراقي. ولا يبدو أن هذا الحراك الشاب، الذي بدأ منذ سنوات، ينتهج موقفاً معادياً إزاء الممولين، وهو لا يتمتع ربما بالخبرات كافية وبتجارب عميقة على صعيد التواصل كما في الحالة الفلسطينية.

أثناء كتابتي حول هذا الموضوع تحدثت مع السيدة سميرة التي تعمل منذ عام 2005 في قضايا البيئة والمرأة وتطوير المجتمع من خلال جمعية لديها مقرات متعددة في مدن عراقية وتتشابك عبرها مع العديد من المؤسسات الدولية في مجال التمويل. فسألتها: هل هناك حراك نسوي عراقي من أجيال شابة لا تستسيغ الحصول على تمويل من أجل نشاطاتها؟ ردت السيدة سميرة قائلةً: "لا علم لي بحراك من هذا النوع. هناك العديد من الحملات والأنشطة بشأن قوانين الحماية الأسرية ومناهضة العنف. أما عن علاقتنا بالممولين، فنحن طالبنا المؤسسات الدولية العاملة في العراق بإدماج عراقيين في تنفيذ المشاريع من أجل تحقيق استدامة للعمل وخلق فرص عمل للعراقيين والعراقيات. ليست لدي معرفة بحركات من هذا القبيل، لكننا ندعو المؤسسات الأجنبية لتوطين هذه البرامج من أجل تقوية المجتمع المدني في العراق وتعزيزه".

أما في الأردن، فهناك حديث عن ضرورة المأسسة!

أما في سياق مغاير، فقد تحدثت مع بنان أبو زين الدين، إحدى مؤسسات "تقاطعات" النسوية في الأردن. أبو زين الدين بدأت ومجموعة من الناشطات حراكهن بالتظاهر للتنديد بقتل النساء في عام 2019، وخلال السنوات الثلاث الأخيرة، اتخذ حراكهن شكلاً مؤسساتياً. وتقول أبو زين الدين:" التمويل ضرورة للاستمرار في الحراك ولكي يكون فاعلاً على المدى الطويل، نحن نكرس وقتنا للقضايا النسوية ويجب أن يكون لدينا الموارد لنتمكن من فعل ذلك". غير أن بنان شاركتني بنقطة هامة حول ضرورة مأسسة الحراك في سياقات تتقلص فيها مساحات المشاركة المدنية، حيث قالت:" لو تحدثنا عن القضية من الناحية الأمنية، ولكي يكون حراكنا مفهوماً وواضحاً لدى السلطات، نحن بحاجة لتسجيله للحصول على التصاريح اللازمة للعمل أيضاً".

تتحرك النسويات الأردنيات في مساحة دولة بقبضة أمنية قوية وتهيمن عليها علاقات عشائرية أبوية. وقد كانت نشأة الحركة النسوية ذات طابع خيري تركز على الإغاثة وعلى مشاريع تكرس الأدوار النمطية للمرأة، أما الحركة النسوية الشابة فلديها حس نسوي مختلف يتحدى حتى هذا الموروث ويريد أن يضع أجندته الخاصة. لكن هذه الحركة النسوية تعترضها عراقيل حقيقة شبيهة بتلك السائدة في الدول المجاورة كمحدودية الموارد وضعف قدرة الحراك النسوي على الصمود والاستمرارية.

ما الذي نتعلمه من مقارنة الحركات النسوية الشابة ببعضها البعض؟

تلعب الدولة ونظامها دوراً مهماً لناحية الشكل الذي يتخذه الحراك النسوي، والتحديات التي تواجهه إضافة إلى مدى ليونته وقدرته على الاستمرارية. فالتحدي الذي تواجهه الحركات النسوية يدفعها للتصدي للنظام الأبوي السائد في مؤسسات الدولة والذي يرى في الحراك النسوي تهديداً للبنى الاجتماعية القائمة. ليس كل حراك نسوي معاد بالضرورة للدولة، لكن قد يكون من المجدي النظر في علاقات الحراك النسوي بأنظمة الدول القائمة وقدرة هذا الحراك على المفاوضة والمجابهة والتحدي.

أما بالنسبة للممولين، فهم ليسوا جهة متجانسة أبداً، كما أن العديد منهم لديه أجندة مسيسة ومشروطة، في حين يظهر البعض الآخر منهم، لاسيما من لديهم صلات بالحركات القاعدية والناشطين، ليونة أكبر في التعامل. وتؤكد أبو زين الدين قائلةً: "نحن لا نقبل بالتمويل المشروط أو المسيس، لدينا قواعد ومعايير لاختيار شركائنا وممولينا، ونحن لا نقبل، مثلاً، أن يملي علينا أحد توجهاتنا، أو يتدخل بشؤوننا الداخلية أو بالمحتوى الذي نصنعه". إن بناء شراكة استراتيجية بين الحراك النسوي والمؤسسات الداعمة يوفر العديد من المزايا للطرفين اللذين تجمعهما المصلحة المشتركة. لكننا هنا أمام نماذج مختلفة على صعيد النضج والاستراتيجيات، فتستطيع المؤسسات المانحة بالتالي إبداء ليونة في تركيز أولوياتها على تحقيق نتائج فعلية متراكمة في قضايا العنف ضد المرأة مثلاً.

إن التمويل هو بحد ذاته مصدر يساهم بشكل كبير وواضح في ضمان الاستمرارية وتحقيق النجاحات المتعاقبة، إلا ان التمويل ليس الشكل الوحيد للعلاقات بين الحركات النسوية الناشئة وبين الجهات المانحة. فتهيئة جو مناسب وداعم لهذه الحركات النسوية، وإعطائها صوت وتزويدها بموارد أخرى كالخبرات والعلاقات والشبكات المتوفرة إقليمياً وعالمياً هي عوامل لها أيضاً أهميتها ووزنها في دعم هذه الحركات على اختلاف منابتها وسواء كانت في طريقها للتمأسس أم لا. إن القضية المحورية هنا هي نوع العلاقة التي تنسجها الجهات الممولة والفاعلة الدولية مع الناشطات والناشطين في قضايا المرأة في العالم العربي، وأهمها الاستمرارية في الشراكة سواء كانت العلاقة تمويلية أم لا، والوعي بموازين القوى بين الطرفين وتأثيرها على نوعية البرامج والتحالفات القائمة.

(1) مراسلة عبر البريد الالكتروني.

(2) مقابلة، 25 آذار/مارس 2022.

(3) Zahra Ali (2021) From Recognition to Redistribution? Protest Movements in Iraq in the Age of ‘New Civil Society’, Journal of Intervention and State building, 15:4, 528-542

(4) مقابلة، 28 آذار/مارس 2022. (اسم غير حقيقي)

(5) مقابلة، 30 آذار/مارس 2022.

Rawan Natsheh resides in Jerusalem, Palestine. She is currently working for Oxfam International in the role of gender advocacy advisor for the MENA region. She has worked in numerous international and national organizations. Rawan is finalizing her PhD studies on policy analysis in the subject of regulation and governance.

The views expressed in this article are not necessarily those of the Friedrich-Ebert-Stiftung.

Friedrich-Ebert-Stiftung

المكتب الإقليمي للجندر والنسوية

202491 1 961+
338986 1 961+
feminism.mena(at)fes.de

من نحن