30.04.2025

القوى العاملة المنسيّة في لبنان

يُبرز عيد العمّال في لبنان الفجوة بين الخطاب السياسيّ والواقع الّذي تـ/يعيشه العاملات والعمّال في القطاع غير الرسميّ. يتناول هذا المقال انتشار العمالة غير الرسميّة في الاقتصاد اللبنانيّ، واستغلال العاملات والعمّال المستضعفات/ين، وفشل الإصلاحات العمّاليّة في معالجة أوجه عدم المساواة الهيكليّة.

في كل عام، تُحيي الحكومة اللبنانيّة عيد العمّال بخطاباتٍ رسميّةٍ غالباً ما تتّسم بنبرةٍ نيوليبراليّة، مصحوبةً بإيماءاتٍ رمزيّةٍ كإغلاق المؤسسات العامة والخاصة (رغم أنّه لا يزال بإمكانك عادةً الحصول على الطعام عبر خدمة التوصيل). وتحرص الشخصيّات العامّة على تكرار الحديث عن "كرامة العمل" – كما فعل الرئيس السابق ميشال عون في خطابه عام ٢٠٢٢ حين قال: "من قلب الظروف الصعبة الّتي نعاني منها، تحيّة تقديرٍ إلى كلّ عاملٍ لبنانيٍّ، على جهد كلّ يوم من أجل كسب لقمة العيش بالبذل الشريف" .

لكن، خلف هذه الشعارات، أكثر من ٦٠% من القوى العاملة في البلاد تعمل بشكلٍ غير رسميٍّ، دون عقودٍ أو حمايةٍ قانونيّةٍ. يُحتفى بكرامة العمل بوصفها قيمةً ملازمةً للعمل نفسه، في حين أنّ الظروف الّتي تـ/يعمل فيها معظم العاملات والعمّال تبقى بعيدةً كلّ البعد عن الكرامة.

من العمل الرعائيّ والزراعة إلى توصيل الطلبات والبناء، يقوم الاقتصاد اللبنانيّ على جهود أشخاصٍ تمّ استثناؤهنّ/م عبر سياساتٍ متعمّدةٍ تضع الربح فوق رفاهيّة العاملات والعمّال. الكثير منهنّ/م من خلفيّات مهاجرَة. الكثيرات هنّ نساء. و تَمّ إبقاء جميع هؤلاء بشكلٍ منهجيٍّ خارج نطاق الحماية الرسميّة.

توسّع العمالة غير الرسميّة في لبنان

رغم أنّ الانهيار الاقتصاديّ في لبنان عام ٢٠١٩ سرّع انتشار العمل غير الرسميّ، إلّا أنّ أُسسه وُضعت قبل عقودٍ من الزمن. تعود جذور العمالة غير الرسميّة إلى انتصار النيوليبراليّة والتحوّل نحو الاقتصاد ما بعد الصناعيّ في التسعينيّات. فقد ساهمت العولمة، والتطورات التكنولوجيّة، وإعادة هيكلة أسواق العمل في تلاشي الطبقة العاملة التقليديّة، مستبدلين العمل المستقرّ بأنماط عملٍ مرنةٍ، مسندةٍ إلى أطراف خارجيّة، ومتزعزعة. وأصبحت العاملات والعمّال، ممّن شكّلن/وا تاريخيّاً محور الحركات العماليّة، يفتقرن/ون بشكلٍ متزايدٍ إلى الحماية ويتعرضن/ون للتفتت والعزل. وقد أضعف الانتقال إلى العمل القائم على القطعة والعقود المؤقّتة دور النقابات، وقوّض التضامن، وترك العاملات والعمّال للتعامل مع حقوقهنّ/م العماليّة في عزلةٍ فرديّة.

أحد أبرز أمثلة العمل المعزول في لبنان هو قطاع توصيل الطلبات. يُعامل سائقو التوصيل كعاملين مستقّلين، ما يعني أنّهم لا يحصلون على إجازاتٍ مدفوعة الأجر. فهم يكسبون أجورهم يوميّاً؛ فإذا مرضوا أو قرّروا أن يرتاحوا، خسروا مصدر دخلهم الوحيد. توظّف شركة التوصيل الرئيسيّة في لبنان، "توتِرز"، آلاف "العاملين المستقلّين"، وتصفهم بأنّهم "جيش" من سائقي التوصيل. معظم هؤلاء السائقين هم من اللاجئين السوريّين، ممّا يزيد من عُرضتهم للاستغلال. تحصّن "توتِرز" نفسها من عمّالها من خلال المنصّة: إذ تدير عمليّاتها عبر تطبيقٍ وطبقاتٍ من قادة الفرق، ما يُمكّنها من تفادي المساءلة المباشرة، بينما تفرض رقابةً صارمةً على جداول عمل السائقين، مثل تعليق حساباتهم عند تفويتهم العمل في ساعات الذروة، وحرمانهم من أبسط أشكال الحماية كالتأمين الصحيّ أو تأمين الدّراجات.

يوفّر قطاع البناء مثالًا آخر على ذلك. فعلى الرغم من أنّ قانون العمل اللبنانيّ ينصّ رسميّاً على حماية عمّال البناء، إلّا أنّ هذا القطاع يهيمن عليه عمّال مهاجرون بأجورٍ يوميّة، ممّن يتمّ توظيفهم بشكلٍ غير رسميٍّ وفي ظروفٍ شديدة الاستغلال. وغالباً ما تغضّ الحكومة الطرف عن الممارسات التعسفيّة الّتي ترتكبها شركات البناء و المقاولات/ون، مفضّلةً تطوير القطاع على حساب حماية العمّال. وبالتالي، فإنّ العمالة غير الرسميّة في لبنان ليست مجرّد نتيجة لأزمة، بل كانت منذ زمنٍ طويلٍ خياراً سياسيّاً متعمّداً.

"اللارسميّة" كهيكلٍ اقتصاديٍّ وسياسيٍّ

انتقدت منظّرات نسويّات مثل سيلفيا فيدريتشي وأنجيلا ديفيس، إلى جانب مفكّرات/ين مناهضاتٍ/ين للاستعمار، الفصل بين "العمل الرسميّ" و"العمل غير الرسميّ"، باعتباره تصنيفاً غير محايدٍ بل بناءاً تاريخيّاً يرسّخ التراتبيّات العرقيّة والجندريّة. فبفضل استغلال الأيديولوجيّات العنصريّة والتمييز الجندريّ القائم، تـ/يتمكّن صاحبات وأصحاب العمل، مدعوماتٍ/ين بحمايةٍ حكوميّة، من استثناء مجموعاتٍ سكانيّةٍ أو مهنٍ بأكملها من مظلّة الحماية القانونيّة بشكلٍ مُتعمّدٍ، ممّا يجعل الاستغلال قانونيّاً وتسهّل استدامته. في هذا النظام، يُصبح العمل غير المأجور، المُجندر والمُعنصَر، حجر الأساس للاقتصادات الرأسماليّة، حيث تصبح العمالة غير الرسميّة ضرورة بنيويّة تُسهّل استغلال العاملات والعمّال غير المحميّات/ين بأجور متدنيّة، بالتوازي مع التهرّب من كلفة الحقوق، والحماية، والمطالب السياسيّة.

يُجسّد نظام الكفالة في لبنان هذا الإقصاء البنيويّ، حيث تُـ/يحرم العاملات والعمّال المنزليّات/ون المهاجرات/ون، ومعظمهنّ من النساء، من أبسط حقوق الحماية العماليّة. هؤلاء العاملات مستثنياتٌ من قانون العمل اللبنانيّ، ممّا يحرمهنّ من حقوقٍ أساسيّةٍ مثل الحدّ الأدنى للأجور والضمان الاجتماعيّ. ويتمّ تحديد شروط عملهنّ، بما في ذلك الراتب وأيام الإجازة، عبر عقودٍ ثنائيّةٍ مع صاحبات وأصحاب العمل تُبرم من خلال وكالات استقدامٍ خاصّةٍ عند وصولهنّ إلى لبنان — وهي ممارسةٌ تهدف إلى الالتفاف على القوانين وتفادي تطبيق أي حمايةٍ مُلزمةٍ. علاوةً على ذلك، تقوم المديريّة العامّة للأمن العامّ، وهي الجهة المسؤولة عن تنظيم إقاماتهنّ بالتعامل مع العاملات المهاجرات كتهديدٍ محتملٍ للنظام العامّ وليس كعاملاتٍ مشروعَاتٍ. ويساهم هذا النهج في ترسيخ وضعهنّ الهشّ والتبعيّ، ويرسّخ البنى العنصريّة والتمييزيّة جندريّاً الّتي تديم استغلالهنّ. ومن خلال إبقائهنّ خارج الإطار العمّاليّ الرسميّ، تُختزل العاملات المهاجرات إلى قوّة عملٍ زهيدة الكلفة، ويمكن الاستغناء عنها، مما يتيح استمرار استغلالهنّ مع الحفاظ على وهم النظام القانونيّ والاجتماعيّ.

مثال آخر هو قطاع الزراعة. تشير دراسةٌ صادرةٌ عن منظّمة العمل الدوليّة عام ٢٠٢٤ إلى أنّ ٨٨% من اللبنانيّات/ين العاملات/ين في الزراعة يعملن/ون بشكلٍ غير رسميٍّ، و١٠٠% من أقرانهنّ/م السوريّات/ون – حيث يشكّلن/ون الغالبيّة في هذا القطاع – مستثنياتٌ/مستثنون من الحماية القانونيّة والضمان الاجتماعيّ. هذا الاستثناء ليس ثغرةً قانونيّةً، ولا يقتصر فقط على قوى عاملة من خلفيّات مهاجرة، رغم أنّها الأكثر تضرراً منه. فقانون العمل اللبنانيّ الصادر عام ١٩٤٦يستثني الزراعة عمداً من نطاقه، كما أنّ غياب تعريفٍ قانونيٍّ لمفهوم "المزارعة/المزارع" يُبقي هذا القطاع خارج أيّ تنظيمٍ رسميٍّ. وبالتالي، تؤدّي العمالة غير الرسميّة في الزراعة وظيفةً اقتصاديّةً محوريّةً. فهي تتيح للدولة الحفاظ على اقتصادٍ زراعيٍّ من دون استثمار في تنمية المناطق الريفيّة، أو توفير مقتضيات الرفاه الاجتماعيّ، أو تحمّل التبعات السياسيّة الناتجة عن دمج أعدادٍ كبيرةٍ من قوى العمل من خلفيّاتٍ مهاجرة. فالدول الرأسماليّة تبني، بشكلٍ ممنهجٍ، "مناطق من اللارسميّة" للحفاظ على عمالة مرنةٍ، زهيدة الكلفة، ويسهل الاستغناء عنها، مع تغليف هذا التجرّيد من الحقوق بسرديّات "الضرورة الاقتصاديّة الوطنيّة" أو "كفاءة السوق".

إصلاحاتٌ في نظامٍ راكد

خضع قانون العمل اللبنانيّ الصادر عام ١٩٤٦ لإصلاحات طفيفةٍ فقط خلال ثمانية عقود، ممّا جعله إطاراً بالياً لا يستطيع توفير حمايةٍ حقيقيّةٍ للعاملات والعمّال. وبما أنّ قانون العمل يُعدّ ركناً أساسيّاً من أركان أيّ عقدٍ اجتماعيّ يعكس ديناميّاتٍ اجتماعيّةٍ أوسع. إلّا أنّ الجمود الّذي يطبّع هذا القانون في لبنان يكشف عن عقدٍ اجتماعيٍّ لا يتسمّ بالهشاشة فحسب، بل يتعرض لانتهاكٍ منهجيٍّ، حيث تُقدَّم أولويّات النموّ الاقتصاديّ على رفاه جميع العاملات والعمّال، بغضّ النظر عن الجنسيّة.

في نيسان/أبريل ٢٠٢٥، أقرّ البرلمان إصلاحاتٍ أدخلت ترتيبات "العمل المرن" إلى قانون العمل. تهدف هذه الإصلاحات إلى مواءمة التشريعات مع معايير العمل الدوليّة، وفتح الباب أمام نقاشاتٍ حول الحاجة إلى قانون عملٍ جديدٍ يواكب التغيّرات الناشئة في سوق العمل. وبينما كان المشرّعات/ون يناقشن/ون معايير العمل تحت قبّة البرلمان، كانت المدرّسات والمدرّسون المتعاقدات/ون في التعليم الأساسي الرسمي في احتجاجٍ خارجه للمطالبة بدخول مستقرةٍ والتحول إلى وظائف دائمة. تُعتبر هذه الفئة من المدرّسات والمدرّسين من بين العاملات والعاملين الأكثر هشاشةً في لبنان؛ إذ يفتقرن/ون إلى رواتب شهريّة، وأمانٍ وظيفيّ، وحمايةٍ اجتماعيّةٍ. ورغم أنّهنّ/م موظّفات/ون عبر وزارة التربية والتعليم العالي، إلّا أنّهنّ/م لا يُعاملن/ون على قدم المساواة مع المدرّسات والمدرّسين المثبّتات/ين في ملاك الوزارة. ومن اللافت أنّهنّ/م من بين الفئات القليلة الّتي لا تزال تنظّم نفسها جماعيّاً للدفاع عن حقوقها.

بدلًا من معالجة الهشاشة البنيويّة، تعمل الإصلاحات العمّاليّة في لبنان على تحديثٍ انتقائيٍّ لبعض ترتيبات العمل، مع الإبقاء على الإقصاءات القديمة. لا تُنهي هذه الإصلاحات الظلم الواقع على العاملات والعمّال، بل تكتفي بجعله محتملاً بدرجةٍ كافيةٍ ليتمكنّ العاملات والعمّال من الاستمرار في العمل. والنتيجة هي تعديلٌ سطحيّ في سوق عملٍ يرسّخ الاستغلال عبر قطاعاتٍ متعدّدة، تاركاً القوى العاملة بلا سلطةٍ حقيقيّةٍ أو حمايةٍ فعليّةٍ.

نحو سياسة تنطلق من واقع الغالبيّة غير الرسميّة

مع انتقال البلاد نحو تغيّر سياسيّ في ظلّ الحكومة الجديدة، تُصبح الحاجة ملحّةً لمواجهة ظروف غير المستقرّة الّتي تعيشها العاملات والعمّال، والعمل على بناء قانون عملٍ يوفّر حمايةً حقيقيّةً للجميع. يتطلّب ذلك حواراً وطنيّاً جادّاً تقوده النقابات العمّاليّة، ومنظّمات المجتمع المدنيّ، والناشطات/ون، يقوم بمواجهة واقع الاقتصاد غير الرسميّ في مختلف القطاعات، ويسعى لتفكيك الأنظمة الاستغلاليّة الّتي تُهيمن على ظروف أكثر العاملات والعمّال ضعفاً. وعلى وجه الخصوص، ينبغي على النقابات العمّاليّة القائمة أن تتبنّى مطالب العاملات والعمّال في القطاعات غير الرسميّة، واللواتي/الذين ما زلن/وا محروماتٍ/ين قانونيّاً من حقّ تأسيس نقاباتٍ رسميّةٍ، أو الدفاع المباشر عن حقوقهنّ/م.

ينبغي ألا تقتصر جهود المناصرة على دمج العاملات والعمّال غير الرسميّات/ين في نظامٍ متهالكٍ، بل أن تسعى إلى إعادة تصوّر الحماية، والاعتراف، والتضامن من أجل جميع العاملات والعمّال. ويشمل ذلك ضمان حقوقٍ أساسيّة مثل الحمايةٍ الاجتماعيّةٍ الشاملة، وتأمين حدٍّ أدنى عادلٍ للأجور، وتوفير بيئة عملٍ آمنةٍ ومنصفةٍ. يجب أن تنطلق الحقوق العمّاليّة من واقع وظروف العاملات والعمّال في الاقتصاد غير الرسميّ، بما يضمن كرامتهنّ/م، ويُعترف بهنّ/م كجزءٍ لا يتجزأ من القوى العاملة.

فتكريم العمل لا ينبع من مجرّد أداءه، بل من الاعتراف، والاحترام، والحقوق الممنوحة للعاملات و العمّال، ومن التحسينات الملموسة في ظروفهنّ/م الماديّة. ولا يمكن للكرامة الحقيقيّة للعمل أن تتحقّق إلّا إذا اقترنت بالعدالة – عدالةٌ تضمن الوصول إلى الحقوق العمّاليّة، والأجور المنصفة، والحماية من الاستغلال، والتوزيع العادل للثروة الناتجة عن هذا العمل.

حسين المعلّم هو أنثروبولوجي وباحث وكاتب لبنانيّ يعمل حاليّاً كمدير برامج في مؤسسة فريدريش إيبرت مكتب لبنان. تتركز اهتماماته على البنى السياسيّة والاقتصاديّة في لبنان، مع تركيز خاصٍّ على قضايا العمل، والاقتصاد غير الرسميّ، والبنى التحتيّة.

سامنتا إيليا هي ناشطة نسويّة ومدرّبة تعمل حاليّاً كمديرة برامج في مشروع النسويّة السياسيّة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لدى مؤسسة فريدريش إيبرت. تشمل مجالات اهتمامها العمل الرعائيّ، وحقوق العاملات والعمّال المنزليّات/ين المهاجرات/ين، والبناء الاجتماعيّ للجنسانيّة، وإدماج المنهجيّات النسويّة وضدّ-الاستعماريّة ضمن برامج التنمية.

الآراء الواردة في هذا المقال لا تمثل بالضرورة وجهات نظر مؤسسة فريدريش إيبرت