يهدف هذا المقال إلى دراسة نزع التسييس عن الحركات النسوية، مع التركيز بشكل خاص على فلسطين، والى تسليط الضوء على كيفية وسبب إعادة تسييس الناشطات النسويات الفلسطينيات لنشاطهن.
لطالما شهدت الحركات النسوية وحركات التحرير المناهضة للاستعمار روابط قوية فيما بينها. وتتجلّى هذه الروابط بضوح في الدول العربية، حيث سادت حالة من التحالف بين الحركات النسائية والنسوية وتلك الداعية للتحرّر الوطني. ورغم محاولات الاحتلال البريطاني والفرنسي في المنطقة لتفتيت وإضعاف الحركات النسوية، احتفظت هذه الحركات بطابعها السياسي المتأصّل، واستمرّت في نشاطها السياسي خلال حقبة ما بعد الاستقلال في معظم بلدان المنطقة.
إلا أن ثمانينات القرن العشرين جلبت تحوّلاً نيوليبرالياً عالميًا. بتوجيه من المانحين الدوليين، ألحقت مبادرات التنمية النيوليبرالية وديناميات "التعاون" الدولي ضرراً جسيماً بالحركات النسوية والتقدّمية في جميع أنحاء الجنوب العالمي، ما أدّى إلى تخلّيها تدريجياً عن طابعها السياسي، إذ اضطرّت الحركات التي تميّزت بالتقاطعية والخطاب السياسية تدريجياً إلى تبنّي مواقف (نيو)ليبرالية، خالية من التحليل الشامل والنقد لديناميات السلطة السائدة والأشكال الهيكلية المتنوّعة للعنف والقمع.
في السياق الفلسطيني، حيث يوثّق نشطاء حقوق الإنسان والصحفيون-ات والمنظّمات العالمية حالةً مستمرّة من الاستعمار والتطهير العرقي وتوسّع الاحتلال العسكري، بات التوجّه المتعمّد نحو نزع السياسة من الحركات الاجتماعية أكثر وضوحاً، وباتت عواقبه ضارة بشكل خاص. يهدف هذا المقال إلى تسليط الضوء على هذه النزعة وتقديم أمثلة على كيفية استعادة النشطاء والمنظّمات النسوية لاستقلالهم في السنوات الأخيرة، وخاصة في وقتنا هذا، وسط استمرار الهجوم العسكري الوحشي ضدّ المدنيين الفلسطينيين في غزة.
توضّح دراسة التقارير الصادرة عن مختلف مؤتمرات الأمم المتحدة العالمية المعنية بالمرأة عملية نزع الطابع السياسي عن وجهات النظر النسوية حول فلسطين والنضالات السياسية الأخرى. في المؤتمر العالمي الأول للسنة الدولية للمرأة في عام 1975 في المكسيك، استحوذت قضية احتلال فلسطين على مكانة بارزة في النقاشات. وتحت عنوان "المرأة الفلسطينية والعربية"، أكّد تقرير المؤتمر على "عدم جدوى الحديث عن المساواة بين البشر في ظل تأثير الاستعمار على الملايين منهم". واعتبر التقرير أن "التعاون الدولي والسلام يتطلبان الاستقلال والتحرّر الوطني، والقضاء على الاستعمار ومظاهر الاستعمار الحديث والفاشية والصهيونية والفصل العنصري والاحتلال الأجنبي،" فضلاً عن "الهيمنة الأجنبية والتمييز العنصري بجميع أشكاله".
إلا أن المؤتمرات العالمية اللاحقة المعنية بالمرأة شهدت إزالةً تدريجيةً للنقاشات السياسية، مما أدى إلى حصر تركيزها تدريجياً حول تحقيق المساواة في الحقوق والتمثيل والفرص بين النساء/الفتيات والرجال/الفتيان — وبالتالي، توجّهت بشكل متزايد نحو التوافق مع النسوية (النيو)ليبرالية. ويبدو هذا الشكل من أشكال النسوية غير قادر على معالجة أسباب جذرية هيكلية للظلم مثل الاحتلال. في تقارير المؤتمر العالمي الثاني للسنة الدولية للمرأة، جاء ذكر فلسطين فقط على لسان الوفدين الفلسطيني والإسرائيلي. ومع حلول المؤتمرين الثالث والرابع، أُغفلت فلسطين من الذكر في أية وثائق رسمية خاصة بهما.
مهّدت نتائج هذه المؤتمرات لصياغة أجندات دولية للمساعدات والتمويلات المتعلقة بالقضايا الجندرية. هذه الأجندات، التي تميّزت بحالة التركيز على مشاريع منفصلة، وعلى التركيز المحصور بالنطاقات الوطنية، وعلى التوجّهات (النيو)ليبرالية، أثرت بشكل عميق على قدرة الحركات النسوية على التعبئة والتنظيم. كما ساعدت في إحداث حالة تنافسية وبيروقراطية في مجال التمويل، مما ساهم في تفتيت الحركات النسوية بشكل واسع في جميع أنحاء الجنوب العالمي وفي فلسطين.
حتى أوائل التسعينات، استمرّت اللجان والهيئات النسوية والنسائية الفلسطينية، خاصة تلك المرتبطة بالأحزاب اليسارية، في جذب وتعبئة أعداد كبيرة من النساء، وقد حافظت في نشاطها على مشروع تحرّري صريح ذي طابع وطني-نسوي برؤية واضحة. ولكن مع توقيع اتفاق أوسلو عام 1993 وتأسيس السلطة الفلسطينية، أصبح الدعم التنموي والتمويل ذو الطابع النيوليبرالي جزءاً أساسياً من تركيبة المجتمع المدني الفلسطيني، في الوقت الذي تم فيه إضعاف الأحزاب السياسية اليسارية بشكل منهجي.
انعدام الاستقرار والتهديد المستمرّ للحياة الذي غزا كل جوانب الحياة الفلسطينية دفع العديد من منظّمات المجتمع المدني، ومنها المجموعات النسوية وتلك المهتمة بحقوق النساء، إلى الامتثال لأجندات التنمية (النيو)ليبرالية ومفاهيم "التعاون" في سبيل ضمان استمراريتها. وبسبب القيود المالية والزمنية عليها، إلى جانب انتشار المشاريع قصيرة الأمد والأجندات الدولية، خضعت الحركات النسوية الجديدة إلى تفخيخ متزايد نتيجة هيمنة نموذج المنظمات غير الحكومية عليها، ما قاد إلى نزع السياسة التدريجي، حيث وجّهت طاقتها بشكل متزايد نحو مواجهة أعراض النظام الأبوي، مع تراجع الاهتمام بمواجهة الرأسمالية والاستعمار والإمبريالية والعنصرية وآثارها على مختلف جوانب حياة الفلسطينيات المختلفات.
مع حلول العام 2020، بات من الواضح أن إسرائيل وحلفاءها ملتزمون بتقييد خطابات وأعمال منظّمات المجتمع المدني التي تقوم بانتقاد الاحتلال الإسرائيلي ونظام الفصل العنصري، وتوثيق انتهاكاته لحقوق الإنسان ضدّ الفلسطينيين. ولعل أبرز مثال على ذلك كان تصنيف إسرائيل لسبع منظّمات حقوقية فلسطينية على أنها "إرهابية" في عام 2022 — وهو ادعاء لم تستطيع حتى وكالة المخابرات المركزية الأميركية أن تأييده، وأدانه خبراء حقوقيون في الأمم المتحدة. رغم ذلك، أدى هذا التصنيف إلى مداهمات عدة ضدّ هذه المنظّمات، وإلى تقييد أنشطتها بشكل كبير.
في الفترة الأخيرة، وفي أعقاب الهجوم الذي شنّته حماس في السابع من تشرين الأول/أكتوبر، قرّر المانحون الدوليون في مجال التنمية والمساعدات مثل سويسرا والنمسا والدنمارك والسويد وألمانيا، إيقاف تمويلهم لمنظّمات المجتمع المدني الفلسطيني. وقد فُسِّر هذا الإجراء كشكل من أشكال العقاب الجماعي، وكمحاولة جديدة لقمع الأصوات الفلسطينية.
في السنوات الأخيرة، شرعت النسويات الفلسطينيات بعملية تهدف إلى إعادة تسييس حركاتهن، إذ بدأن بإعادة تموضع حراكهن عند تقاطع النضالات المختلفة التي تواجه النساء والفتيات الفلسطينيات، مع العمل على الابتعاد عن ديناميات التمويل التي تقوّض مواقفهن.
ومن الأمثلة على ذلك حركة "طالعات"، وهي حركة نسوية فلسطينية تطوّعية ظهرت عام 2019، تهدف إلى إدانة العنف المركّب الذي تعاني منه الفلسطينيات، وذلك تحت شعار "لا وطن حراً دون نساء حرة". نجحت الحركة، بفضل خطابها السياسي والتقاطعي، وكذلك استقلاليتها وطبيعتها القاعدية، بحشد آلاف النساء في جميع أنحاء فلسطين، وكذلك في عمّان وبيروت وبرلين.
في مواجهة ما يُعرف بالغسيل الأخضر والوردي الإسرائيلي، والذي يستخدم لتبرير احتلال إسرائيل العسكري الوحشي وهجماته على غزة، قام نشطاء فلسطينيون كويريون-ات ونسويات-بيئيات بربط نضالاتهم-ن بالمشروع الأوسع الساعي لتحرير فلسطين. قاد هؤلاء حركات تكشف الستار عن الطابع الاستعماري لهذه التكتيكات الترويجية، متحدّين الادعاءات المتناقضة في السرديات الإسرائيلية، والتي تسعى إلى شيطنة الفلسطينيين بينما تصوّر نظام الفصل العنصري العنيف في إسرائيل بوصفه ديمقراطية عادلة وتقدّمية.
في أعقاب أحداث السابع من تشرين الأول/أكتوبر، ومع تعليق بعض المانحين الدوليين لتمويلهم، أصدر تجمّع مكوّن من 37 منظّمة مجتمعية في فلسطين بياناً أكّد فيه أن "خطاب ’التنمية‘ و’المعونات‘ ليس إلا مرادفاً للتبعية السياسية المفروضة علينا بهدف إخضاعنا وتثبيط النضال وتفتيت حاضنته الشعبية." وتأكيداً على التزامها، أعلنت المنظّمات عزمها على الاستمرار في عملها، دون الاعتماد على التمويل الذي يعطّلها عن إحداث تغيير جذري المطلوب لتحقيق الحرية والعدالة.
نظراً لطبيعتها، واجهت الحركة النسوية على الدوام علاقات القوّة غير المتكافئة، وكذلك القمع المنهجي والتهميش والاستغلال. ولذا فإن النسوية سياسية بطبيعتها، وهي تجد نفسها اليوم ملتزمة بالنظر في علاقات القوة ضمن ديناميات التنمية والتعاون الدولية، ولا سيما تلك التي تعزّز أو تدعم الأنظمة الاستعمارية والأبوية.
وحتى لو نجحت المقاربات (النيو)ليبرالية المنزوعة السياسة في تحسين حياة قلة من النساء ممن يتمتّعن بالامتيازات على المستوى العالمي، فإنها لن تسفر عن نتائج كهذه في فلسطين. ففي سياق تتلاقى فيه أشكال متعدّدة من القمع المنهجي للتأثير على واقع النساء، وحيث تُستخدم المساعدات والتمويل الأجنبي كسلاح لمراقبة الحركات الاجتماعية وإسكاتها وتفتيتها، يجب أن يظلّ الموقف السياسي والتقاطعي للحركات النسوية ثابتاً.
نجد أنفسنا اليوم في لحظة حرجة من التاريخ، تتطلّب المبدئية والجرأة والحزم. وقد نهضت النسويات الفلسطينيات لمواجهة هذا التحدي، على الرغم من التهديدات المباشرة لهن ولسبل عيشهن وحتى لحياتهن. هنّ اليوم بحاجة إلى مناصرين من جميع أنحاء العالم.
إلى جميع النسويات في كافة أنحاء العالم، اللواتي طالما أعلنّ التزامهن بالحرية والعدالة وحقوق الإنسان والقانون الدولي: لقد حان الوقت لتكنّ فاعلات سياسيات. لقد حان الوقت لممارسة التضامن النسوي. لقد حان الوقت لإدراك التقاطعات ما بين صراعاتنا الجماعية. ارفعن أصواتكنّ. شاركن في التنظيم والتعبئة.
فرح دعيبس هي مديرة برامج تعمل على برنامج النسوية السياسية في مؤسسة فريدريش إيبرت في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. هي ناشــطة نســوية تقاطعيه تركز في عملهــا على القضايــا المتعلقة بالعدالة الاجتماعية والاقتصادية والبيئية وعلى تعزيز الحركات النسوية في المنطقة
الآراء الواردة في هذا المقال لا تمثل بالضرورة وجهات نظر مؤسسة فريدريش إيبرت
202491 1 961+338986 1 961+feminism.mena(at)fes.de
This site uses third-party website tracking technologies to provide and continually improve our services, and to display advertisements according to users' interests. I agree and may revoke or change my consent at any time with effect for the future.
These technologies are required to activate the core functionality of the website.
This is an self hosted web analytics platform.
Data Purposes
This list represents the purposes of the data collection and processing.
Technologies Used
Data Collected
This list represents all (personal) data that is collected by or through the use of this service.
Legal Basis
In the following the required legal basis for the processing of data is listed.
Retention Period
The retention period is the time span the collected data is saved for the processing purposes. The data needs to be deleted as soon as it is no longer needed for the stated processing purposes.
The data will be deleted as soon as they are no longer needed for the processing purposes.
These technologies enable us to analyse the use of the website in order to measure and improve performance.
This is a video player service.
Processing Company
Google Ireland Limited
Google Building Gordon House, 4 Barrow St, Dublin, D04 E5W5, Ireland
Location of Processing
European Union
Data Recipients
Data Protection Officer of Processing Company
Below you can find the email address of the data protection officer of the processing company.
https://support.google.com/policies/contact/general_privacy_form
Transfer to Third Countries
This service may forward the collected data to a different country. Please note that this service might transfer the data to a country without the required data protection standards. If the data is transferred to the USA, there is a risk that your data can be processed by US authorities, for control and surveillance measures, possibly without legal remedies. Below you can find a list of countries to which the data is being transferred. For more information regarding safeguards please refer to the website provider’s privacy policy or contact the website provider directly.
Worldwide
Click here to read the privacy policy of the data processor
https://policies.google.com/privacy?hl=en
Click here to opt out from this processor across all domains
https://safety.google/privacy/privacy-controls/
Click here to read the cookie policy of the data processor
https://policies.google.com/technologies/cookies?hl=en
Storage Information
Below you can see the longest potential duration for storage on a device, as set when using the cookie method of storage and if there are any other methods used.
This service uses different means of storing information on a user’s device as listed below.
This cookie stores your preferences and other information, in particular preferred language, how many search results you wish to be shown on your page, and whether or not you wish to have Google’s SafeSearch filter turned on.
This cookie measures your bandwidth to determine whether you get the new player interface or the old.
This cookie increments the views counter on the YouTube video.
This is set on pages with embedded YouTube video.
This is a service for displaying video content.
Vimeo LLC
555 West 18th Street, New York, New York 10011, United States of America
United States of America
Privacy(at)vimeo.com
https://vimeo.com/privacy
https://vimeo.com/cookie_policy
This cookie is used in conjunction with a video player. If the visitor is interrupted while viewing video content, the cookie remembers where to start the video when the visitor reloads the video.
An indicator of if the visitor has ever logged in.
Registers a unique ID that is used by Vimeo.
Saves the user's preferences when playing embedded videos from Vimeo.
Set after a user's first upload.
This is an integrated map service.
Gordon House, 4 Barrow St, Dublin 4, Ireland
https://support.google.com/policies/troubleshooter/7575787?hl=en
United States of America,Singapore,Taiwan,Chile
http://www.google.com/intl/de/policies/privacy/