24.11.2022

النسوية والعدالة الاقتصادية

للنسوية صلة وثيقة بالعدالة الاقتصادية، فكلاهما ضد التمييز والاستغلال والتهميش. لا يمكن تحقيق العدالة الاقتصادية في مجتمع تحكمه السلطة الأبوية، وتفرض فيه شتى القيود على النساء، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً.

في هذا المقال، سوف نركز على التقاطع بين النسوية والعدالة الاقتصادية في مجال العمل. فكلما ارتفعت معدلات البطالة والتهميش والاستبعاد في سوق العمل، تضاءلت فرص تحقيق العدالة الاجتماعية، وأصبح المجتمع مهدداً بزيادة معدلات الفقر. ولأن منطقتنا العربية تسودها ثقافة ذكورية تحد من وصول النساء إلى الكثير من الخدمات، فإن النساء عرضة أكثر للفقر، حتى أصبح يطلق على هذه الظاهرة اسم "تأنيث الفقر".

في السطور القادمة، سنستخدم النسوية أداة للتحليل، ونتناول أثر هذه العلاقة غير المتكافئة وما يترتب عليها من تمييز وعنف على أساس النوع، وكيف تسهم النسوية في تحقيق العدالة الاقتصادية.

الاقتصاد النسوي أداة للتحليل

يركز الاقتصاد النسوي على قياس حجم الوقت والجهد الذي تبذله النساء في المنزل، واحتساب قيمة هذا الوقت من الناتج الإجمالي القومي. في الدول العربية، تقوم النساء بأعمال الرعاية غير مدفوعة الأجر 4.7 مرات أكثر من الرجال، وهي أعلى نسبة في العالم بحسب هيئة الأمم المتحدة للمرأة. تتغافل المجتمعات الأبوية والرأسمالية عن حقيقة أنه من دون الأعمال الرعائية التي تقوم بها النساء، لا يمكن لعجلة الاقتصاد أن تتحرك. وتنظر إلى الأعمال الرعائية باعتبارها هامشية لا مردود لها، ولا تحتاج إلى مهارات أو قدرات ذهنية معينة، وإنما إلى صفات عامة مثل العطف والحنان والصبر. في حين يقوم الرجال بالأعمال المأجورة، التي تمنحهم امتيازات وسلطة على النساء تؤسس لعلاقة تبعية هم أصحاب القرار فيها.

يكشف الاقتصاد النسوى الاستغلال والتنميط الذي تتعرض له النساء في سوق العمل من قبل السلطة الأبوية وسياسات الاقتصاد الرأسمالي. فالدور الإنتاجي للنساء في سياق كهذا ينحصر بأعمال الرعاية (التعليم، التمريض، خدمة المنزل، الخياطة، وبيع الأطعمة الجاهزة)، ويستبعدهن من بعض المهن تحت دعوى الانشغال بالمسؤوليات العائلية، أو عدم القدرة البدنية أو النفسية للقيام بها. بذلك تكون النساء بين شقي رحى الأبوية والهيمنة الذكورية، والاستغلال وسوء المعاملة في سوق العمل.

العمل اللائق

في عام 1999، وضعت منظمة العمل الدولية مفهوم "العمل اللائق" في صلب سياساتها وأهدافها الدستورية. يجسد العمل اللائق تطلّعات الأفراد في حياتهم المهنية، وآمالهم المعلّقة على الفرص، والحقوق، والاستقرار العائلي، والتطور الشخصي، والعدالة، والمساواة بين الجنسين، بالإضافة إلى إيصال صوتهم والاعتراف بدورهم. تعمل منظمة العمل الدولية على سد الفجوات والنواقص من خلال تطبيق برامج ابتكارية للعمل اللائق، تستند إلى أربعة أسس مهمة وشاملة هي: (1) استحداث فرص العمل (2) تطوير المؤسسات والحماية الاجتماعية والمعايير (3) الحقوق في العمل (4) الحوار الاجتماعي. تعتمد هذه البرامج على إعلان منظمة العمل الدولية حول العدالة الاجتماعية، من أجل عولمة عادلة تعيد النظر في السياسات الاقتصادية والمالية، وتضع نصب أعينها الهدف الرئيسي، ألا وهو الارتقاء بالعدالة الاجتماعية.

ولكن الفجوة بين وضع النساء في سوق العمل ومعايير العمل اللائق في اتساع مطّرد، حيث ترتفع معدلات بطالة النساء مقارنة بالرجال، وتتعرض النساء للتمييز عند الدخول إلى سوق العمل، مما يحرمهن من شغل الوظائف التي تناسب مؤهلاتهن وخبراتهن لأنهن نساء. كما يهيمن الرجال على مراكز صنع القرار في كافة القطاعات، ويتسع فارق الأجور والترقي المهني لصالحهم، يضاف إلى ذلك تعرّض النساء للعنف والتحرش في أماكن العمل، حيث تغيب سياسات الحماية الفاعلة في حال كان الجاني صاحب سلطة وظيفية عليهن. كل ذلك يصيب الناجيات من العنف بأضرار صحية ونفسية تؤثر على قدرتهن الإنتاجية، ويسبب تغيبهن عن العمل، وربما يدفعهن إلى الاستقالة والخروج من السوق برمته، أو تقبلّ العمل في بيئة غير آمنة.

تتجه النساء إلى العمل غير المنظم في المناطق الريفية والفقيرة، حيث ترتفع معدلات الأمية ويفرض الزواج عليهن في سن الطفولة. وتُقبل النساء على هذا النوع من العمل لأنه يتيح لهن الشغل من داخل المنزل، ويمكّنهن من تجميع رأس مال عبر طرق عديدة من بينها الإقراض. مع ذلك، تعترض النساء العديد من العقبات في هذا المجال، وتتراكم عليهن أقساط القروض بسبب تشابه وتكرار أنشطة المشروعات، بالإضافة إلى ضعف فرص التسويق، وعدم وصول النساء إلى الهيئات المعنية بالتدريب والتأهيل.

يتضح مما سبق أن خروج النساء للعمل، مع الإبقاء على تقسيم الأدوار الجندرية التقليدية غير العادل، سواء داخل الأسرة أو في مكان العمل، يساهم في تحسين دخل الأسرة – الأمرُ الذي ينعكس على زيادة القدرة الشرائية وجودة الحياة المعيشية، وبالتالي يحسّن مؤشرات التنمية والاقتصاد المحلي – ولكنه لا يمنحها الحق في صنع القرار الاقتصادي داخل الأسرة وخارجها.

السياسات البديلة

تدرك النسويات أن الطريق ليست سهلة، فالثقافة الذكورية متغلغلة في الهياكل المؤسسية، والقائمون على هذه المؤسسات هم جزء من المجتمع الأبوي، يعاملون النساء ليس كزميلات في العمل، يمتلكن الخبرة والمؤهلات التعليمية والقدرة على القيام بنفس المهام، بل وفق نظرتهم للنساء ودورهن. فإذا كان لدى الواحد منهم نظرة تقليدية تجاه النساء ودورهن – كما هي الحال السائدة في مجتمعاتنا العربية – تتحول أماكن العمل بسببهم إلى مساحات للسيطرة والهيمنة الذكورية، وتبرير الممارسات التمييزية تجاه النساء، تحت دعوى أحقية الرجل في الحصول على أجر أعلى لأنه مسؤول عن الإنفاق على الأسرة، حتى لو كان ذلك بخلاف ما يجري في الواقع. ومن الادعاءات الشائعة أيضاً أن الرجل أولى بالمناصب القيادية لأنه يتصف بالحكمة ورجاحة العقل، على عكس المرأة التي تتصف بالعاطفية، ولأن هذه المناصب تتطلب ساعات عمل أطول، الأمر الذي لا يناسب المرأة، التي ينبغي عليها أن تعود للمنزل للقيام بوظيفتها الثانية.

مع ذلك، تتسع كل يوم المساحة التي تنتزعها النسويات العربيات لتفكيك هذا الخطاب الذكوري، وفتح نقاش مجتمعي حول عمل الرعاية، وإعادة تقسيم الأدوار بشكل عادل. وتركز العديد من المنظمات النسوية في عملها مع النقابيات، لكي تمكنهنّ من التعبير عن أنفسهن وقضاياهن، سواء ضمن التنظيمات النقابية أو داخل المجتمع بشكل عام، بالإضافة إلى تحفيزهن على الانخراط في العمل النقابي والوصول إلى مناصب قيادية. وقد أسهم هذا التفاعل والتواصل المباشر بين المنظمات النسوية والنقابات إلى امتلاك النقابيات رؤية واضحة بشأن ضرورة تحقيق العدالة الجندرية، مما لا يؤدي إلى تحسين أوضاع النساء فحسب، بل يمثل شرطاً أساسياً للتنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية.

ينشغل المجتمع الدولي في الوقت الحالي بالعمل على تحقيق خطة التنمية المستدامة لعام 2030، التي تشمل من بين أبرز أهدافها تحقيق المساواة بين الجنسين. كما تعتبر الهيئات الدولية المعنية بقضايا العمل، والاستراتيجيات الوطنية المرتبطة بأهداف التنمية، المساواة بين الجنسين قضية مركزية. لذا فالطريق ممهد أمام المنظمات النسوية والنقابات ليقوموا بصياغة برنامج عمل مرحلي يمثل نقطة الانطلاق نحو العدالة الجندرية والاقتصادية، وذلك على النحو التالي:

  • مطالبة الحكومات بالتصديق على اتفاقيات منظمة العمل الخاصة بالمساواة بين الجنسين، ولا سيما الاتفاقية 190 بشأن مناهضة العنف والتحرش في العالم، والاتفاقية 189 بشأن العمل اللائق للعمال المنزليين.
  • إقرار وتنفيذ خطة عمل وطنية على مستوى كل دولة من أجل خلق إطار عام داعم يعزز سبل مشاركة المرأة في الأنشطة الاقتصادية والمناصب القيادية، وتوفير بيئة عمل آمنة خالية من العنف أو التمييز، وتطوير وإتاحة بنية معرفية محدثة في مجال العمل وفقًا النوع الاجتماعي، وتعزيز سبل المساندة ورفع الوعي المجتمعي بقضايا المساواة بين الجنسين في مجال العمل.
  • مراجعة التشريعات ودمج منظور النوع الاجتماعي فيها، لاسيما التشريعات ذات الصلة بالسياسات الاقتصادية والاستثمار والعمل.
  • تمكين النساء من الوصول والمشاركة الفاعلة في صنع القرار الاقتصادي والحصول على الموارد الاقتصادية.
  • إجراء مسح أكثر شمولاً لاستخدام الوقت، وتحليل جميع أشكال العمل، وتقييم العمل غير مدفوع الأجر، واحتساب أعمال الرعاية في الناتج الإجمالي القومي، من أجل رد الاعتبار للعمل المنزلي على المستوى الاقتصادي.
  • تحميل الحكومات وقطاع الأعمال والنقابات مسؤولية العمل على إعادة تقسيم الأدوار بما يسمح بإقامة علاقة شراكة بين النساء والرجال داخل المنزل وخارجه، وإتاحة الفرص المتساوية، والتمكين على اختيار الأنشطة الاقتصادية، من خلال تشريعات وسياسات تحقق التوازن للنساء والرجال، مثل توفير دور الحضانة، ومنح الرجال والنساء إجازات رعاية الطفل.

يتطلب تحقيق هذه المطالب إقامة تحالفات وشراكات بين المنظمات النسوية والنقابية، فضلاً عن التزام الحكومات الدولية المرتبطة بتحقيق أهداف التنمية المستدامة 2030، وخصوصاً تحقيق المساواة بين الجنسين. يمكن لهذا التحالف النسوي النقابي أن يحقق مكاسب تحد من الآثار السلبية للسياسات النيولبيرالية التي تستغل النساء وتعرضهن لمختلف أشكال العنف والتمييز، فتخفض أجورهن أو تحصرها في أعمال الرعاية، أو تتيح لأصحاب العمل فرصة التهرب من التزاماتهم القانونية في حماية الدور الإنجابي للنساء.

منى عزت ناشطة منذ أكثر من ٢٠ عاماً في الحركة النسوية من خلال عملها مع المنظمات النسوية والنقابات في مصر ومنطقة العربية.

الآراء الواردة في هذا المقال لا تمثل بالضرورة وجهات نظر مؤسسة فريدريش إيبرت

Friedrich-Ebert-Stiftung

المكتب الإقليمي للجندر والنسوية

202491 1 961+
338986 1 961+
feminism.mena(at)fes.de

من نحن