17.10.2022

النزعة العسكرية: ضرورة أم ذكورية سامة مبجلة؟

تتيح النسويّة فرصة لكفّ التبجيل الذي تغدقه الثقافة الأبوية السائدة على النزعة العسكرية، وتقود المسيرة نحو عالم ينعم بالسلام والأمن.

إلى يومنا هذا، تلقى النزعة العسكرية قبولاً واسعاً بصفتها ضرورة محضة، وتقابل بتبجيل ثقافي في كل أشكالها. يلبس الأطفال زي الشرطة ويلعبون بالمسدسات لكي يشعروا بأنهم أبطال، ويسعى الرجال بغية تحقيق الذات ونيل الشرف من خلال الخدمة في الجيش؛ ويشاد بالدول ذات الأسلحة الأقوى والأكثر وحشية بصفتها قادة العالم.

ولكن تُعتبر النزعة العسكرية من وجهة نظر نسوية أوضحَ تمظهر للذكورية السامة. فهي تستخدم أساليب أبوية مثل بث الخوف و’الذعر الأخلاقي‘، وتجريد أشخاص أو فئات اجتماعية معينة من إنسانيتها بغرض الحفاظ على اختلالات في موازين القوى والاستمرار في ممارسة السيطرة والاستغلال.

لن يعالج هذا المقال الآثار السلبية التي لا تحصى للعسكرة على حياة النساء والمجتمعات بمختلف أطيافها، ولكنه سوف يلقي نظرة على الكيفية التي تؤدي فيها النزعة العسكرية – بوصفها امتداداً للنظام الأبوي – إلى مفاقمة التحديات الكبرى التي تواجه منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والعالم أجمع، كما سوف يوضح أن النهج النسوي للسلام والأمن هو طريقنا الوحيد إلى الأمام.

استيفاء كل لوازم الأبوية

النزعة العسكرية هي أداء جندري تقوم به دولة أو جماعة مسلحة، تكرر من خلاله الأفعال النمطية والذكورية بشكل دائم من أجل الحفاظ على صورة هوية رجولية "قوية". روسيا خير مثال على هذه النزعة. حيث احتفِي بالرئيس الروسي الحالي، خلال سنواته الأولى في العمل السياسي، بصفته قائداً يمكنه "إعادة تَرجيل" الأمة. ومنذ ذلك الحين، وهو يعرض نفسه وروسيا ككل بصفتهم بالغي الذكورية، من خلال زيادة عسكرته للدولة. بل إن الرئيس الروسي أثنى على حلفائه الذين يشاطرونه التفكير لامتلاكهم "شخصيات رجولية بحق".

كثيراً ما يقترن هذا الأداء الجندري الذكوري بخطاب معادي للنسوية والمثلية. ففي مصر بعد انقلاب 2013، تعرض-ت النسويات-ون وأفراد مجتمع الميم إلى الملاحقة القانونية و/أو السجن. وفي لبنان، رفعَ وتيرة الخطاب السياسي المعادي للمثلية والنسوية خطابٌ ألقاه مؤخراً الأمين العام لحزب الله، وهو حزب سياسي عسكري. أما في الولايات المتحدة الأمريكية، فقد حابى الرئيس الهنغاري هذا الشهر حشوداً في مؤتمر العمل السياسي المحافظ، معظمهم من مؤيدي حمل السلاح، عبر قوله إننا بحاجة "إلى ملكات دراغ أقل، وتشاك نوريس أكثر!"

حتى جنسَنة وتسليع أجسام النساء – والتي تمثل عماداً للنظام الأبوي – تصل أقصى حد لها عند العسكَرة. فعمليات الاغتصاب الممنهج، والعنف الجنسي، والإعقام القسري، والعنف التوليدي كانت – وما تزال – تستخدم ضد النساء، سواء لإلحاق العار برجال العدو، أو مكافئة الجنود، أو النهوض بالمصالح العسكرية.

حرب على البيئة

كل الأنشطة العسكرية مدمرة بيئياً. فإنتاج، واستعمال، وتجريب الأسلحة العسكرية، وكذلك إجراء التدريبات العسكرية برمتها تؤدي لتلويث الهواء، والماء، والتربة، والأنسجة الحيوانية. ويعتقد بأن الجيوش تحتل 5-6% من سطح الكرة الأرضية، أي بحجم الصين وروسيا مجتمعتَين. إن وجود الجيوش يخرب ويعرقل المساحات الطبيعية ويمنع فرص التطوير. كما يتطلب الحفاظ على استعداد الجيوش إتلافاً مستمراً للموارد الضارة، مثل الذخائر الفائضة. كما يتم استخدام الأذية البيئية المقصودة كأسلحة حرب خلال الحروب والنزاعات.

يقوم الجيش الأمريكي لوحده بإنتاج انبعاثات غازات الاحتباس الحراري أكثر من دول بأكملها مثل البرتغال أو الدنمارك، وتفيد التقارير بأنه "أكبر عامل تمكين للتغير المناخي" في العالم. مع ذلك، ما تزال دول العالم التي وقعت على بروتوكول كيوتو أو اتفاقية باريس غير ملزمة برفع التقارير حول الانبعاثات التي تنتجها جيوشها، ولا ملزمة بتقليصها.

تسليح الرأسمالية بربح لانهائي

من المعروف أن شن الحروب وتصنيع الأسلحة والتقنيات العسكرية تلقى الدعم من صانعي القرار في مختلف أنحاء العالم نظراً لمستوى ربحيتها النقدية. فبلغت قيمة صناعة الأسلحة دوليةً على الأقل 118 مليار دولار أمريكي في عام 2019. أما قيمة قطاع تصنيع الأزياء العسكرية لوحدها فبلغت قرابة 3 مليار دولار أمريكي في نفس العام. وبلغت كلفة الوقود الذي استهلكه الجيش الأمريكي خلال عملياته في أفغانستان والعراق ثلاثة ملايين دولار أمريكي كل يوم.

إن زيادة الميزانية العسكرية القومية عادة ما يعني تقليص ميزانية الخدمات العامة، مما يسفر عن حاجة أكبر لخصخصة هذه الخدمات، نظراً لادعاء الدول بعدم امتلاكها الموارد اللازمة لتقديمها. تحرر الخصخصة الدولة، إذاً، من مسؤولية توفير أكثر الاحتياجات أساسية لدى مواطنيها، وتسمح للشركات المدفوعة بالربح بأن تملي شروط تقديمها.

حتى الحرب أصبحت أكثر خصخصة في العقدَين الأخيرين. وصارت شركات الجيش والأمن الخاصة تستخدم على نطاق دولي لتوفير "خدمات أمنية" عسكراتية لصالح جهة معينة. تقدر القيمة الحالية لهذه القطاع بـ224 مليار دولار دولياً، ويواجه العديد من المشاكل المتعلقة بالحوكمة والمحاسبة.

محاصرة الحركات الاجتماعية

لقد أصبح قمع الحركات الاجتماعية استراتيجية مركزية في السياقات الاستبدادية، استراتيجية لا يمكن تطبيقها من دون العسكَرة. يتم نشر الشرطة والعسكر والجماعات المسلحة في كل مكان، بغية تخويف النشطاء والناشطات المطالبين-ات بتحقيق العدالة الاجتماعية أو البيئية. وفي كل أنحاء العالم – من ألمانيا والسودان، إلى تشيلي وليبيا – تتزايد ممارسة وتوثيق هذا التخويف والعنف ضد النشطاء والناشطات.

كذلك تستغل العسكَرة الحركات الاجتماعية بغية رد الانتقادات الموجهة إليها ودعم الأنظمة القمعية الأخرى لإخضاع هذه الحركات. فصار ما يسمى بالغسيل الأخضر ممارسة اعتيادية من قبل الجيوش التي تروج لنفسها بأنها "خضراء" عن طريق مشاريع وممارسات سطحية مثل تشجيع جنودها على أن يصبحوا نباتيين، أو استخدامها للرصاص القابل للتحلل، أو زرع الأشجار في القواعدها العسكرية. كذلك صارت أجهزة الشرطة والعسكر تحتفي أكثر بالنساء، وأفراد مجتمع الميم، والمنتمين-ات إلى الأقليات العرقية في صفوفها، كأنما بذلك تعوّض عن العنف الذي ترتكبه بحق هذه الفئات. والأسوأ من ذلك كله، محاولات دول الغرب لتبرير الحرب بحجة تحرير النساء "المقموعات"، في عرض صارخ لعقدة المخلّص الأبيض، الأمرُ الذي ساهم في خلق نوع من النسوية المعادية للفكر النسوي تدعى "النسوية الأمنية".

إعادة تعريف الأمن، إحلال السلام

إن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا سوف تكون إحدى أكثر المناطق تضرراً من تغير المناخ، وهي تعاني من انعدام المساواة الاقتصادية والاجتماعية، وأغلب دولها ترزح تحت أنظمة حكم استبدادية. هذه التحديات الوجودية لا توجد بمعزل عن بعضها وتربطها توجهات عالمية تفاقمها النزعة العسكرية بشتى الطرق، كما أوضحنا أعلاه.

لا يمكن قبول حجة "الأمن" التي تستخدمها النزعة العسكرية كمبرر لا في ظل المعاناة البشرية والخسائر الفادحة التي تنتجها الحروب والصراعات، ولا في ظل دورها في الانقراض الجماعي الوشيك وازدياد نسب الفقر والقمع في كل مكان. وبعبارة تعود إلى الرابطة النسائية الدولية للسلام والحرية، فإن المسائل الأمنية الحقيقية التي ينبغي علينا الاستثمار فيها هي إزالة "الفقر، والجوع، والمرض، وأكثر."

إن تعريف السلام، بصفته غياب الحرب، تعريف قاصر على أقل تقدير. تقدم النسوية رؤية أكثر اكتمالاً لسلام مستدام يضرب جذوره في مفاهيم المحاسبة، والعدالة، والتعاضد، والحرية. لدى العلاقات النسوية الدولية والسياسة الخارجية والإنمائية النسوية القدرة على دعم هذه الرؤية، ولكن فقط إذا تم تأطيرها وتطبيقها بنية حقيقية لإزالة اختلالات القوى وأشكال العنف البنيوي. إن السياسة الخارجية والإنمائية النسوية لا يمكن أن تتعايش مع إنتاج وبيع الأسلحة التي تستخدم في الحروب المدمرة على سبيل المثال، كما لا يمكن أن تتعايش مع العقلية الامبريالية التي تصور نساء بلدان الجنوب كضحايا سلبيات، ينتظرن الخلاص بقوة السلاح من قبل دول الغرب.

إن من شأن إطار عمل نسوي تقاطعي لا يرضى بالمساومات أن يتيح لنا فرصة التفكير بطرق إزالة الدوافع البنيوية المتداخلة للحروب والصراعات (كالأبوية، والرأسمالية، والسلطوية، والامبريالية) ويعبّد المسيرة نحو عالم آمن ومسالم للجميع.

Farah Daibes is a Senior Programme Manager at Friedrich-Ebert-Stiftung’s Political Feminism programme in the MENA region.

الآراء الواردة في هذا المقال لا تمثل بالضرورة وجهات نظر مؤسسة فريدريش إيبرت

Friedrich-Ebert-Stiftung

المكتب الإقليمي للجندر والنسوية

202491 1 961+
338986 1 961+
feminism.mena(at)fes.de

من نحن